[الآثار الواردة في لزوم السنة والتحذير من البدع]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال مالك بن أنس: من لزم السنة وسلم منه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مات، كان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وإن كان له تقصير في العمل.
وقال بشر بن الحارث: الإسلام هو السنة والسنة هي الإسلام، أي: أن من لزم السنة وعمل بالكتاب، وسلم منه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستقر على الدين فهو مع النبيين والصديقين، وإن كان عمله لا يلحق بهم لكن تجبره المحبة، فمحبته لهم تلحقه بهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب)، فإذا اجتهد الإنسان في العمل الصالح، وكان موحداً، واستقام على الدين مع بذل الجهد فإن محبته لهم تجبره، أي: تجبر هذا النقص ويكون معهم.
جاء رجل أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! المرء يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب).
وقول بشر بن الحارث: الإسلام هو السنة، والسنة هي الإسلام.
بيانه أن الإسلام هو أن تعمل بالسنة، والسنة فيها أوامر ونواه، فإذا عملت بها فهذا هو الإسلام، والسنة هي الإسلام، ومن عمل بالسنة فهو على الإسلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الفضيل بن عياض: إذا رأيت رجلاً من أهل السنة فكأنما أرى رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا رأيت رجلاً من أهل البدع فكأنما أرى رجلاً من المنافقين.
وقال يونس بن عبيد: العجب ممن يدعو اليوم إلى السنة، وأعجب منه من يجيب إلى السنة فيقبل].
يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: إذا رأيت رجلاً من أهل السنة فكأنما أرى رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تابع لآثارهم، ومتخلق بأخلاقهم، فكأنه منهم.
وإذا رأيت رجلاً من أهل البدع فكأنما أرى رجلاً من المنافقين؛ لأن النفاق يكثر في البدع.
ويقول يونس بن عبيد: (العجب ممن يدعو اليوم إلى السنة) يعني: لقلتهم بسبب كثرة البدع، وكيف أن الله تعالى سلمهم من الفتن والبدع.
(وأعجب منه من يجيب إلى السنة فيقبل)، أعجب ممن يهتدي؛ لأن الله تعالى وفقه مع كثرة البدع وكثرة الداعين إلى البدع.
وهذا معناه يشبه معنى الأثر: (ليس العجب ممن هلك كيف هلك لكن العجب ممن نجا كيف نجا) أخرجه أبو نعيم في الحلية، وابن بطة في الإبانة، واللالكائي في السنة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان ابن عون يقول عند الموت: السنة السنة، وإياكم والبدع؛ حتى مات].
وهذا من نصحه رحمه الله، فعندما حضره الموت كان يقول: السنة السنة! يعني: الزموا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإياكم والبدع حتى مات، جعل يكرر هذه الكلمة ويوصي الناس بلزوم السنة والحذر من البدع.
والأنبياء أنصح الناس إلى الناس، والعلماء ورثة الأنبياء ينصحون الناس ويبينون لهم الحق، ويحذرونهم من البدع، ويأمرونهم بلزوم السنة، ويدلونهم إلى طريق السعادة، ومنهم ابن عون رضي الله عنه، كان يقول عند الموت من شدة نصحه: السنة السنة، أي: الزموا السنة، وإياكم والبدع، ويكرر ذلك حتى مات رضي الله عنه وأرضاه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: مات رجل من أصحابي فرئي في المنام فقال: قولوا لـ أبي عبد الله: عليك بالسنة، فإن أول ما سألني الله سألني السنة.
وقال أبو العالية: من مات على السنة مستوراً فهو صديق، ويقال: الاعتصام بالسنة نجاة، وقال سفيان الثوري: من أصغى بإذنه إلى صاحب بدعة خرج من عصمة الله ووكل إليها، يعني: إلى البدع].
هذه الرؤيا من باب البشارة، فهذا لما مات رئي في المنام يوصي الإمام أحمد بلزوم السنة؛ لأنه سئل في قبره أول ما سئل عن السنة، وقال أبو العالية الرياحي التابعي الجليل: (من مات على السنة مستوراً فهو صديق)، أي: من مات على الكتاب والسنة، ومات على التوحيد، وحذر البدع والمعاصي فهو صديق، فبقوة تصديقه يحذر من الشبهات والشهوات.
وقوله: (الاعتصام بالسنة نجاة)، أي: نجاة من الهلاك ونجاة من النار، فمن اعتصم بالسنة نجا وسلم من البدع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال داود بن أبي هند: أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى بن عمران: لا تجالس أهل البدع؛ فإن جالستهم فحاك في صدرك شيء مما يقولون أكببتك في نار جهنم].
هذا من آثار بني إسرائيل وأخبارهم لا يعول عليه؛ فإن داود بن أبي هند القشيري بينه وبين موسى عليه السلام دهور وأزمنة طويلة تنقطع دونها أعناق المطي، ومثل هذا لا يؤخذ إلا عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وهل بني إسرائيل عندهم بدع؟ أم عندهم كفر أو معاص؟ على كل حال أخبار بني إسرائيل لا حاجة إليها، والمؤلف رحمه الله نقله من باب الاستئناس، وإلا فإن الآثار التي ذكرها كافية.
وقول سفيان الثوري: (من أصغى بأذنه إلى صاحب بدعة خرج من عصمة الله ووكل إليها)، يعني: إلى البدع، وهذا الأثر أخرجه أبو نعيم في الحلية وابن بطة في الكبرى.
وهذه من العقوبة العاجلة، فإذا أصغى إلى صاحب بدعة فإنه يعاقب بأن يخرج من العصمة ويوكل إليها إذا كان ذلك عن عمد، ولكن من بادر بالتوبة وجاهد واستغفر الله وتاب فإن الله يتوب عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الفضيل بن عياض: من جالس صاحب بدعة لم يعط الحكمة، وقال الفضيل بن عياض: لا تجلس مع صاحب بدعة؛ فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة].
هذه الآثار كلها إلى آخر الرسالة عن الفضيل بن عياض العابد الورع الزاهد الإمام المعروف، كان في أول حياته من قطاع الطريق، ثم هداه الله وصار إماماً واعظاً مشهوراً وعالماً ورعاً زاهداً، وهو الذي فسر قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:١١٠].
قال معناه: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي! ما أخلصه وما أصوبه؟ قال: إذا كان العمل خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، فالخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة.
فقول الفضيل بن عياض: (من جالس صاحب بدعة لم يعط الحكمة)، يعني: إلا أن يتوب فمن تاب تاب الله عليه.
والمراد بالحكمة العلم.
وقوله: (لا تجلس مع صاحب بدعة فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة) لأن أهل الكبائر والبدع ملعونين، فقد لعن الله السارق، وشارب الخمر وآكل الربا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه].
هذا الأثر أخرجه اللالكائي وابن بطة وأبو نعيم وإسناده صحيح، هذا إذا كانت البدعة مكفرة، أما إذا كانت البدعة غير مكفرة فإيمانه يكون ضعيفاً، ويخرج كمال النور ويبقى أصله.
وهذا فيه التحذير من البدع.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الفضيل بن عياض: من جلس مع صاحب بدعة في طريق، فجز في طريق غيره].
هذا الأثر أخرجه أبو نعيم وابن بطة وابن الجوزي ومعناه: إذا رأيت صاحب بدعة جالساً في طريق فاذهب من طريق آخر لئلا يؤثر عليك، وهذا فيه التحذير من أهل البدع، إلا إذا أردت نصيحته وتحذيره، وغلب على ظنك أنه يستفيد فهذا مطلوب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الفضيل بن عياض: من عظم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام، ومن تبسم في وجه مبتدع فقد استخف بما أنزل الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم، ومن زوج كريمته بمبتدع فقد قطع رحمها، ومن تبع جنازة مبتدع لم يزل في سخط من الله حتى يرجع].
وهذا الأثر أخرجه أبو نعيم في الحلية وابن الجوزي، وإسناده صحيح كما قال المحقق.
يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: من عظم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام؛ لأن البدع تهدم شيئاً من الإسلام؛ فالكفر يهدم الإسلام، والبدع تضعف الإسلام.
ومن عظم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام؛ لأنه أعانه على الباطل.
ومن تبسم في وجه مبتدع فقد استخف بما أنزل الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه ينبغي للإنسان أن يعبس في وجه المبتدع ولا يتبسم في وجهه، يبقى كما قال الناظم ابن عبد القوي في منظومته: (والقهم بوجه مكفهر مربد) يعني: أهل البدع لا تلقهم بوجه منبسط ولا تتبسم في وجوههم بل تعبس في وجوههم، وتظهر لهم الكراهة وتهجرهم حتى يتوبوا من بدعتهم.
[ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها]، من زوج بنته أو أخته من مبتدع فهذا فيه قطع للرحم؛ لأن الرحم هم الأقارب من جهة الأب أو الأم، وأول الأرحام أبوك ثم أمك، ثم بناتك وأبناؤك من الرحم، وأولادك وإخوتك وأخواتك وأعمامك وعماتك وأخوالك وخالاتك، فمن زوج بنته أو أخته من مبتدع فقد قطع رحمها، إن كانت أخته قد قطع الرحم بينه وبين أخته، وإن كانت بنته فكذلك.
ومن تبع جنازة مبتدع لم يزل في سخط الله حتى يرجع، ولهذا قال العلماء: نهوا عن اتباع جنازة المبتدع وعن زيارة المريض المبتدع، وكان بعض السلف إذا رأى من يتبع جنازة مبتدع أو يزور المبتدع هجره.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الفضيل بن عياض: آكل مع يهودي ونصراني ولا آكل مع مبتدع، وأحب أن يكون بيني وبين صاحب بدعة حصن من حديد].
هذا الأثر أخرجه اللالكائي وأبو نعيم وأخرج ابن بطة الشطر الثاني منه، ووجهه -والله أعلم-: أن اليهودي والنصراني معروف كفره وضلاله، وهو من أهل الكتاب؛ ولهذ