[الإيمان بالشفاعة]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والإيمان بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمذنبين الخاطئين يوم القيامة، وعلى الصراط، ويخرجهم من جوف جهنم، وما من نبي إلا وله شفاعة، وكذلك الصديقون والشهداء والصالحون، ولله بعد ذلك تفضل كثير على من يشاء، والخروج من النار بعدما احترقوا وصاروا فحماً].
أي: يجب على المسلم أن يؤمن بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم للمذنبين الخاطئين، والخاطئون بمعنى المذنبين، لكن الخاطئ غير المخطئ؛ لأن المخطئ هو الذي فعل الشيء من غير تعمد، وهو قد يغفر له، مثل قتل الخطأ، بخلاف الخاطئ، فإن الخاطئ هو المذنب العاصي المتعمد، فهو أشد إثماً من المخطئ.
ففرق بين الخاطئ والمخطئ، ولهذا قال الله تعالى في سورة الحاقة: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:٣٥ - ٣٧] أي: المذنبون، أما المخطئ فهو الذي فعل الشيء عن غير عمد.
وقد جاء في إثبات الشفاعة أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بلغت حد التواتر، وصرحت هذه الأحاديث بأنه يدخل النار جملة من أهل الكبائر، أي: من أهل التوحيد، مؤمنون موحدون مصلون، لكن دخلوا النار بذنوب ومعاص ارتكبوها ولم يتوبوا منها، فهذا دخل النار لأنه مات على الزنا من غير توبة، وهذا مات على الربا من غير توبة، وهذا مات على عقوق الوالدين من غير توبة، هذا مات على قطيعة الرحم من غير توبة، وهؤلاء العصاة الموحدون منهم من يعفو الله عنه من أول وهلة، كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨]، ومنهم من يعذب في قبره وتسقط عنه عقوبة جهنم بعذاب القبر، كما في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: (إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة).
ومنهم من تصيبه الأهوال والشدائد في يوم القيامة، ويكون ذلك تكفيراً لذنوبه، ومنهم من يستحق دخول النار ثم يشفع فيه قبل أن يدخلها، ومنهم من يدخل النار، ولا بد أن يدخل النار جملة من أهل الكبائر، فقد تواترت الأخبار بهذا.
ونبينا صلى الله عليه وسلم يشفع أربع شفاعات، في كل مرة يحد الله له حداً بالعلامة، فقد ورد في بعضها أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع فيشفعه الله فيمن كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، وفي بعضها مثقال نصف دينار، وفي بعضها: أخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وفي بعضها: أخرج من كان في قلبه أدنى من مثقال حبة من إيمان، فهذه أربع شفاعات للنبي صلى الله عليه وسلم للمذنبين الذين استحقوا دخول النار.
وجاء في بعضها أن في المرة الأولى يقال له: أخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وفي المرة الثانية: أخرج من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، وفي المرة الثالثة: أخرج من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان.
ويشفع كذلك بقية الأنبياء، والملائكة والشهداء والصالحون والأفراط، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته، فيخرج قوماً من النار لم يعملوا إحساناً قط، يعني: لم يعملوا ما هو زيادة عن التوحيد والإيمان، كل هذا تواترت به الأحاديث.
ومع كون الأحاديث متواترة في هذا فقد أنكرها الجهمية والمعتزلة والخوارج، وقالوا: إن العاصي مرتكب الكبيرة مخلد في النار، لا يخرج منها أبد الآباد، فالخوارج قالوا: من زنى كفر ويخلد في النار، من سرق كفر ويخلد في النار، من أكل مال اليتيم كفر، من عق والديه كفر، وهكذا، فحكموا على العصاة بالكفر والخلود في النار، والمعتزلة حكموا عليهم بأنهم خرجوا من الإيمان ولكنه لم يدخل في الكفر، فهو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فقالوا: إنه يخلد في النار.
فأنكر عليهم أهل السنة، وبدعوهم وضللوهم.
الآن قد يوجد بعض الناس ممن يتأثر بمذهب الخوارج، فبعض الناس وخاصة الشباب تجدهم يكفرون بعض الناس بالمعاصي، فكل من حكم بغير ما أنزل الله كفروه، وكل من فعل معصية كفروه، فهذا الفكر جاء إليهم من الخوارج، فإن العاصي لا يكفر، بل نقول: العاصي ضعيف الإيمان، أو ناقص الإيمان، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، يعني: وهو مؤمن كامل الإيمان، فنفى عنه كمال الإيمان ولم ينف عنه الإيمان، بدليل أن الله أثبت الأخوة بين القاتل والمقتول، مع أن القاتل مرتكب لكبيرة من الكبائر، قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:١٧٨].
فالإيمان بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم للمذنبين الخاطئين في يوم القيامة حق، وكذلك شفاعة غيره، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة.
قال عليه الصلاة والسلام: (إن كل نبي تعجل دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)، أما الكافر الذي مات على الكفر، فلا حيلة فيه ولا شفاعة له، قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:٤٨]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:٢٥٤]، فهذا في أهل الكفر.
والخوارج والمعتزلة أخذوا النصوص التي في الكفرة وجعلوها في العصاة الموحدين، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (الإيمان بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم للمذنبين الخاطئين في يوم القيامة، وعلى الصراط، ويخرجهم من جوف جهنم)، يعني: من داخل جنهم.
وما من نبي إلا له شفاعة، وكذلك الصديقون يشفعون، والصديق: على وزن فِعِّيل، وهو من قوي تصديقه وإيمانه بالله، فأحرق بقوة تصديقه الشبهات والشهوات، ومقدمهم فينا الصديق الأكبر أبو بكر، ودرجتهم أعلى من الشهداء، ولما اهتز أحد وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيد)، فدرجة الصديقين فوق درجة الشهداء.
ثم بعدها درجة الشهداء، والشهيد: هو الذي بذل نفسه رخيصة في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله، فإنه بذل أغلى ما يملك وهي نفسه التي بين جنبيه، فقاتل أعداء الله، لإعلاء كلمة الله.
ثم بعد ذلك درجة الصالحين من المؤمنين على تفاوتهم فيما بينهم، فمنهم السابقون، ومنهم المقتصدون، ومنهم الظالمون لأنفسهم، فالسابقون في أعلى الدرجات، وهم الذين داوموا على الفرائض والنوافل، وتركوا المحرمات والمكروهات، والمقتصدون هم الذين اقتصروا على أداء الفرائض وترك المحرمات، ولم يفعلوا النوافل وقد يفعلون بعض المكروهات، والظالمون لأنفسهم موحدون مؤمنون، لكنهم قصروا في بعض الواجبات، أو فعلوا بعض المحرمات، فهؤلاء عندهم أصل الصلاح وأصل التقوى، فينفعهم هذا الصلاح والتقوى في عدم الخلود في النار، ولكنهم قد يدخلون النار ويعذبون، لكن في النهاية مآلهم إلى الجنة والسلامة.
وقول المؤلف: (ولله بعد ذلك تفضل كثير على من يشاء) يعني: الله تعالى يتفضل بعد ذلك على من يشاء، فيخرج برحمته بقية أهل التوحيد الذين لم يشفع فيهم، ولهذا قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولله بعد ذلك تفضل كثير على من يشاء والخروج من النار بعدما احترقوا وصاروا فحماً).
وهذا قد جاءت فيه الأحاديث التي أثبتت أن المؤمنين العصاة الذين دخلوا النار يحترقون فيها ويصيرون فحماً، وأنهم يخرجون من النار ضبائر ضبائر -أي: جماعات جماعات- بعدما صاروا فحماً، وأنهم يموتون فيها إماتة، كل هذا ثبت في صحيح مسلم وغيره، وأنهم بعد أن يخرجوا من النار يلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، يعني: البذرة، ثم بعد ذلك يدخلون الجنة.