للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ما حصل في هذه الأمة من الفتن والافتراق]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، وهكذا كان الدين إلى خلافة عمر بن الخطاب، وهكذا كان في زمن عثمان، فلما قتل عثمان رضي الله عنه جاء الاختلاف والبدع، وصار الناس أحزاباً وصاروا فرقاً، فمن الناس من ثبت على الحق عند أول التغيير وقال به وعمل به ودعا الناس إليه، فكان الأمر مستقيماً حتى كانت الطبقة الرابعة في خلافة بني فلان انقلب الزمان، وتغير الناس جداً، وفشت البدع، وكثر الدعاة إلى غير سبيل الحق والجماعة، ووقعت المحن في كل شيء لم يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، ودعوا إلى الفرقة -ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرقة- وكفر بعضهم بعضاً، وكل داعٍ إلى رأيه وإلى تكفير من خالفه، فضل الجهال والرعاع ومن لا علم له، وأطمعوا الناس في شيء من أمر الدنيا، وخوفوهم من عقاب الدنيا، فاتبعهم الخلق على خوف في دنياهم ورغبة في دنياهم، فصارت السنة وأهلها مكتومين، وظهرت البدع وفشت، وكفروا من حيث لا يعلمون من وجوه شتى، ووضعوا القياس، وحملوا قدرة الرب وآياته وأحكامه وأمره ونهيه على عقولهم وآرائهم، فما وافق عقولهم قبلوه، وما لم يوافق ردوه، فصار الإسلام غريباً، والسنة غريبة، وأهل السنة غرباء في جوف ديارهم].

هذا فيه بيان الاختلاف الذي حصل في الأمة، يقول المؤلف رحمه الله: (واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، وهذا الحديث حديث حسن أخرجه الترمذي في الإيمان والآجري في الشريعة والحاكم وغيرهم.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، وفي لفظ: (وهي الجماعة)، وفي لفظ: (قيل: من هي يا رسول الله؟! قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، فهذه الفرق كلها من الفرق المبتدعة متوعدة بالنار إلا واحدة وهي الجماعة، وهم أهل السنة والجماعة، وهم الفرقة الناجية، وهم أهل الحق، وقد أخرج العلماء الجهميةَ والقدريةَ الأولى والرافضة من الثنتين والسبعين فرقة؛ لكفرهم وضلالهم.

قوله: (وهكذا كان الدين إلى خلافة عمر بن الخطاب) أي: كلهم كانوا على الحق مستقيمين.

(وهكذا كان في زمن عثمان، فلما قتل جاء الاختلاف والبدع، وصار الناس أحزاباً وصاروا فرقاً) والذي أثارها هو عبد الله بن سبأ اليهودي الحميري، وأشاع أن أهل البيت مظلومين، وأن علياً أحق بالخلافة، وجعل يثير هذا في الشام وفي مصر وفي الكوفة، فتبعه السفهاء وصاروا ينشرون مساوئ عثمان رضي الله عنه بين الناس، وصاروا يقولون: عثمان فعل كذا وخفض صوته بالتكبير، وعثمان أتم الصلاة في السفر، وعثمان أخذ الزكاة على الخيل وخالف ما كان عليه الشيخان أبو بكر وعمر وهكذا، فتبعه كثير من الشباب السفهاء، فجاءوا وأحاطوا ببيته وقتلوه.

إذاً فنشر الناس مساوئ الحاكم وولي الأمر صار سبباً في الفرقة، فصار الناس أحزاباً وفرقاً، فظهرت الخوارج والشيعة، وصار الناس فرقاً وأحزاباً: شيعة وخوارج وقدرية.

(فمن الناس من ثبت على الحق) وهم أهل السنة والجماعة، الصحابة ومن تبعهم.

(فكان الأمر مستقيماً حتى كانت الطبقة الرابعة في خلافة بني فلان) لم يذكر هذه الخلافة، فتحتمل أنها خلافة بني العباس أو بني أمية، فهناك اختلاف في بني أمية أيضاً، فقوله: (الطبقة الرابعة) إن كان المراد به القرون المفضلة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون، ويخونون ولا يؤتمنون).

(في خلافة بني فلان انقلب الزمان، وتغير الناس جداً، وفشت البدع، وكثر الدعاة إلى غير سبيل الحق والجماعة، ووقعت المحن في كل شيء لم يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، ودعوا إلى الفرقة ونهى رسول صلى الله عليه وسلم عن الفرقة) والاختلاف، وقد أمر الله تعالى بالاجتماع فقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران:١٠٥]، {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:٤]، (وكفر بعضهم بعضاً، وكل داع إلى رأيه وإلى تكفير من خالفه، فضل الجهال والرعاع ومن لا علم له، وأطمعوا الناس في شيء من أمر الدنيا وخوفوهم عقاب الدنيا، فاتبعهم الخلق على خوف في دنياهم ورغبة في دنياهم، فصارت السنة وأهلها مكتومين، وظهرت البدع وفشت، وكفروا من حيث لا يعلمون من وجوه شتى، ووضعوا القياس) يعني: الآراء في مقابلة النصوص، (وحملوا قدرة الرب وآياته وأحكامه وأمره ونهيه على عقولهم وآرائهم) يعني: فسروا النصوص بآرائهم، فما وافق عقولهم قبلوه وما لم يوافق عقولهم ردوه.

وهذا لما انتشرت البدع والخوارج، وكان أصلها في أوائل المائة الثانية وقد ظهرت في أواخر عهد الصحابة، وكذلك ظهرت القدرية والشيعة، بل بعد قتل عثمان رضي الله عنه ظهرت الخوارج والشيعة، وفي أواخر عهد الصحابة ظهرت القدرية، ثم في أوائل المائة الثالثة ظهرت الجهمية والمعتزلة.

(فصار الإسلام غريباً والسنة غريبة وأهل السنة غرباء في جوف ديارهم)، والمقصود من كلام المؤلف رحمه الله هذا التحذير من البدع والاختلاف في الدين، وأن على المسلم أن يحذر البدع، وأن يلزم السنة والجماعة، فالبدع بريد الكفر، فهي توصل إلى الكفر، والبدعة أحب إلى الشيطان من الكبيرة؛ فإن صاحب الكبيرة كالزاني والسارق وشارب الخمر والمرابي يعلم أنه عاصٍ على باطل لذلك فقد يفكر في التوبة، وأما المبتدع فيظن أنه على حق.

<<  <  ج: ص:  >  >>