[الأمر بالكف عن الجدال والمراء]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإذا سألك أحد عن مسألة في هذا الكتاب وهو مسترشد فكلمه وأرشده، وإذا جاءك يناظرك فاحذره؛ فإن في المناظرة المراء والجدال والمغالبة والخصومة والغضب، وقد نُهيتَ عن هذا جداً، يخرجان جميعاً من طريق الحق، ولم يبلغنا عن أحد من فقهائنا وعلمائنا أنه ناظر أو جادل أو خاصم.
قال الحسن البصري رحمه الله: الحكيم لا يماري ولا يداري في حكمته أن ينشرها، إن قبلت حمد الله، وإن ردت حمد الله.
وجاء رجل إلى الحسن فقال: أنا أناظرك في الدين، فقال الحسن: أنا عرفت ديني، فإن ضل دينك فاذهب فاطلبه.
(وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً على باب حجرته يقول أحدهم: ألم يقل الله كذا؟ وقال الآخر: ألم يقل الله كذا؟ فخرج مغضباً فقال: أبهذا أمرتم؟! أم بهذا بعثت إليكم؛ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟!) فنهى عن الجدال.
وكان ابن عمر يكره المناظرة، ومالك بن أنس ومن فوقه ومن دونه إلى يومنا هذا.
وقول الله عز وجل أكبر من قول الخلق، قال الله تبارك وتعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر:٤].
وسأل رجل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ما النَّاشِطَاتِ نَشْطًا؟ فقال: لو كنت محلوقاً لضربت عنقك.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن لا يماري، ولا أشفع للمماري يوم القيامة، فدعوا المراء لقلة خيره)].
(إذا سألك أحد عن مسألة في هذا الكتاب)، أي: في كتابه هذا (السنة) الذي ذكر فيه عقيدة أهل السنة والجماعة، (فانظر هل هو مسترشد أو مجادل) فإن كان مسترشداً فكلمه وأرشده وبين له، وإن كان مجادلاً فلا تجبه واحذره.
والمقصود: أن الذي يسألك عن مسألة في هذا الكتاب فهو بين أمرين لا يخلو عن أحدهما: إما أنه مسترشد يريد الفائدة، أو مجادل، فإن كان مسترشداً فأرشده ووضح له؛ لأنه يريد الحق، وإن كان مجادلاً مناظراً فلا تجبه واحذره، فإن المناظرة هي المراء والجدال والمغالبة والخصومة، وقد نهيت عن جميع هذا.
(وهو يزيل عن طريق الحق)، أي: أن الجدال يبعد الإنسان عن طريق الحق، وهذا محمول على ما إذا كان الجدال لا يفيد، أما إذا غلب على الظن أنه يفيد فإنه يناظر ويبين له الحق لعل الله أن يهديه.
أما إذا وجد علامات تدل على أن هذا الشخص لا يريد الحق وأنه معاند فهذا لا يناظر بل يترك، وقد جادل عثمان بن سعيد الدارمي بشر المريسي، وهناك مناظرات حدثت بين العلماء.
(وقد نهيت عن جميع هذا، وهو يزيل عن طريق الحق، ولم يبلغنا عن أحد من فقهائنا وعلمائنا أنه ناظر أو جادل أو خاصم)، وقد قال الله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:١٢٥] وقال: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:٤٦].
فلا بأس بالجدال إذا تعين طريقاً لقبول الحق.
(قال الحسن البصري رحمه الله: الحكيم لا يماري ولا يداري في حكمته أن ينشرها، إن قبلت حمد الله، وإن ردت حمد الله)، أي: يترك المراء والجدال، وهذا أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في زوائده على الزهد لـ ابن المبارك، وابن بطة في الإبانة الكبرى، يقول: وهذا إسناده ضعيف، فيه راوٍ مبهم، وهذا محمول على ما إذا كان الجدال لا يفيد.
(وجاء رجل إلى الحسن -يعني الحسن البصري - فقال: أناظرك في الدين؟ فقال الحسن: أنا عرفت ديني، فإن ضل دينك فاذهب فاطلبه).
أخرجه الآجري في الشريعة، واللالكائي في السنة، وابن بطة في الإبانة، وهو صحيح.
والمعنى: أني لا حاجة لي في مناظرتك، فإن كان دينك قد ضاع منك فاذهب فاطلبه وابحث عنه، أما أنا فإني لا إشكال عندي، وليس عندي شك في ديني.
((وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً على باب حجرته يقول أحدهم: ألم يقل الله كذا؟ وقال الآخر: ألم يقل الله كذا؟ فخرج مغضباً فقال: أبهذا أمرتم؟! أم بهذا بعثت إليكم، أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟!).
وجاء في بعض الأحاديث: (أن أحدهم كان يأخذ وينزع بآية وهذا ينزع بآية)، وجاء في بعضها: نفي القدر، (فخرج النبي مغضباً كأنما فقئ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال: أبهذا أمرتم؟ أم بهذا وكلتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟! ما علمتم منه فاعملوا به، وما لم تعرفوا فكلوه إلى عالمه) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
يقول المؤلف عن الحديث: إنه صحيح، وقد أخرجه أحمد وابن ماجة، وفيه النهي عن الجدال.
(وكان ابن عمر يكره المناظرة ومالك بن أنس ومن فوقه ومن دونه إلى يومنا هذا)، أي: إذا كانت المناظرة تؤدي إلى النزاع والشقاق والبغضاء، أما إذا كانت المناظرة تؤدي إلى قبول الحق ومعرفة الحق فإنها مطلوبة، كما قال الله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:١٢٥].
(وقول الله عز وجل أكبر من قول الخلق، قال الله تبارك وتعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:٤])، أي: أن قول الله أبلغ من الآثار، وأقوى دليلاً، وفي الآية بيان أن الكفار هم الذين يجادلون في آيات الله.
(وسأل رجل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن هذه الآية: {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} [النازعات:٢]؟ قال له: ما (الناشطات نشطاً)؟ فقال عمر: لو كنت محلوقاً لضربت عنقك)، أي: محلوق الرأس؛ لأن الخوارج يحلقون رءوسهم ويتدينون بحلق الرأس ويشددون، فقال عمر له: لو كنت محلوقاً، أي: لو كنت محلوق الرأس لعرفت أنك من الخوارج الذين يجادلون بالباطل، وحينئذ ضربت عنقك.
وفي الحديث يقول النبي عليه الصلاة والسلام عنهم: (سيماهم التحليق) أي: علامة الخوارج حلق الرأس، والخوارج يتشددون في حلق الرأس.
وقصة الرجل الذي سأل عمر صحيحة مشهورة.
(وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن لا يماري، ولا أشفع للمماري يوم القيامة، فدعوا المراء؛ لقلة خيره).
(المؤمن لا يماري) أي: لا يجادل، وهذا الحديث ضعيف جداً، أخرجه الطبراني في الكبير، والآجري في الشريعة، وابن بطة في الإبانة، وأبو إسماعيل الهروي في ذم الكلام.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه كثير بن مروان وهو ضعيف جداً، وقال: وفيه كثير بن مروان كذبه يحيى والدارقطني.
والمقصود: أن هذا الحديث ضعيف.
والجدال فيه تفصيل: فإذا كان بالباطل فقد نهي عن ذلك، وإذا كان يفيد فلا بأس بالجدال لإيضاح الحق.