[الأمر بالوقوف على المتشابه والنهي عن كلام أهل البدع]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقف عند المتشابه، ولا تقس شيئاً، ولا تطلب من عندك حيلة ترد بها على أهل البدع، فإنك أمرت بالسكوت عنهم، ولا تمكنهم من نفسك، أما علمت أن محمد بن سيرين -في فضله- لم يُجب رجلاً من أهل البدع في مسألة واحدة، ولا سمع منه آية من كتاب الله عز وجل، فقيل له، فقال: أخاف أن يحرفها فيقع في قلبي شيء.
وإذا سمعت الرجل يقول: إنا نحن نعظم الله إذا سمع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعلم أنه جهمي، يريد أن يرد أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدفعه بهذه الكلمة، وهو يزعم أنه يعظم الله وينزهه، إذا سمع حديث الرؤية وحديث النزول وغيره.
أفليس يرد أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وإذا قال: إنا نعظم الله أن يزول من موضع إلى موضع فقد زعم أنه أعلم بالله من غيره، فاحذر هؤلاء، فإن جمهور الناس من السوقة وغيرهم على هذا الحال، وحذر الناس منهم].
(وقف عند المتشابه ولا تقس شيئاً)، والمعنى: أنه يجب على الإنسان أن يقف عند المتشابه من القرآن والسنة، ولا يتكلم في المتشابه حتى يسأل أهل العلم؛ لأن المتشابه الإضافي يمكن أن يكون متشابهاً عند كل أحد، فالمتشابه يرد إلى المحكم، ويفسر ويضم إليه حتى يتضح المعنى، كما قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران:٧].
أما المتشابه على كل أحد ككل الصفات وكل حقائق الآخرة، فهذا يوكل أمره إلى الله عز وجل، ولا يفسر، وإنما يفوض أمره إلى الله عز وجل.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وقف عند المتشابه ولا تقس شيئاً) أي: لا تقس شيئاً من أمور وحقائق الآخرة على أمور الدنيا، فالله تعالى أخبر أن لنا في الآخرة خمراً ولبناً وعسلاً وفاكهة، فهذه التي أخبرنا الله عنها في الآخرة ليست مثل ما عندنا في الدنيا، وإن كان بينهما نوع تشابه يكون في الأسماء ولكنها تختلف، ولهذا قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء.
قوله: (ولا تطلب من عندك حيلة ترد بها على أهل البدع؛ فإنك أمرت بالسكوت عنهم)، أي: لا ترد على أهل البدع إذا كان الرد لا يفيد معهم، بأن كانوا أهل عناد ولا يقبلون الحق، أما إذا كان يرجى أن ينتفعوا به، فإنه يرد عليهم ويبين لهم الحق لعل الله أن يهديهم، ويناظرون إذا غلب على الظن أن المناظرة تفيد، لكن هذا الكلام محمول على أهل البدع الذين لا تفيد المناظرة معهم، ولا يفيد الكلام معهم.
(ولا تمكنهم من نفسك)؛ لأنك إذا مكنتهم من نفسك طمعوا فيك وقد يؤثرون عليك.
(أما علمت أن محمد بن سيرين -أي: التابعي الجليل- في فضله لم يُجب رجلاً من أهل البدع في مسألة واحدة، ولا سمع منه آية من كتاب الله عز وجل، فقيل له، فقال: أخاف أن يحرفها فيقع في قلبي شيء)، وهذا أخرجه الدارمي، وابن وضاح في البدع، والآجري في الشريعة، واللالكائي في السنة، وابن بطة في الإبانة الكبرى.
فلما كان يسأله رجل من أهل البدع لم يكن يجبه محمد بن سيرين رحمه الله ولا يسمع منه آية، فلما سئل، قال: أخاف أن يحرفها فيقع هذا التحريف في قلبي، فإذا كان هذا التابعي الجليل يخاف أن يقع في قلبه شيء من التحريف، فكيف بغيره؟! (وإذا سمعت الرجل يقول: إنا نحن نعظم الله، إذا سمع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعلم أنه جهمي يريد أن يرد أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدفعه بهذه الكلمة، وهو يزعم أنه يعظم الله وينزهه، إذا سمع حديث الرؤية وحديث النزول وغيره أفليس يرد أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!) هناك اصطلاح عند الجهمية، فإذا سمع الجهمي أو صاحب البدعة حديثاً، كحديث النزول أو حديث الرؤية، قال: إنا نعظم الله، وقصده بذلك: لا نقبل إلا ما في القرآن، وقصده كذلك رد السنة، ورد الأحاديث التي ذكرتها.
وإذا قرأت عليه الأحاديث التي فيها إثبات السمع والبصر، قال: إنا نعظم الله، فإذا سمعت هذه الكلمة فاعلم أنه جهمي؛ لأنه يريد أن يرد الأثر والحديث، فكأنه يقول: لا أقبل الحديث وإنما أكتفي بالقرآن، فإذا سمعت الرجل يقول: إنا نعظم الله إذا تلوت عليه الحديث وسمع منك حديث الرؤية وحديث النزول وغيره فاعلم أنه جهمي يريد أن يرد النصوص بهذه الكلمة، وفي الظاهر يزعم أنه يعظم الله وينزهه، ويوهم بذلك.
(وإذا قال: إنا نعظم الله أن يزول من موضع إلى موضع)، من قال هذا فقد أراد أن يرد حديث النزول، فإذا تلوت أحاديث النزول قال: إنا نعظم الله أن يزول من موضع إلى موضع، وقصده بذلك إنكار حديث النزول، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (فقد زعم أنه أعلم بالله من غيره، فاحذر هؤلاء، فإن جمهور الناس من السوقة وغيرهم على هذا الحال، وحذر الناس منهم)، فاحذر هؤلاء؛ لأن كثيراً من الناس ينطلي عليهم هذا التمويه، وحذر الناس منهم.