[عدم قبول قول الجهمية والمعتزلة في القول بأن القرآن مخلوق]
قال المؤلف رحمه الله: [واعلم رحمك الله أن أهل العلم لم يزالوا يردون قول الجهمية، حتى كان في خلافة بني فلان تكلم الرويبضة في أمر العامة, وطعنوا على آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا بالقياس والرأي، وكفروا من خالفهم، فدخل في قولهم الجاهل والمغفل، والذي لا علم له، حتى كفروا من حيث لا يعلمون, فهلكت الأمة من وجوه, وكفرت من وجوه, وتزندقت من وجوه, وضلت من وجوه, وتفرقت وابتدعت من وجوه, إلا من ثبت على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره وأمر أصحابه، ولم يخطئ أحداً منهم، ولم يجاوز أمرهم, ووسعه ما وسعهم، ولم يرغب عن طريقتهم ومذهبهم، وعلم أنهم كانوا على الإسلام الصحيح والإيمان الصحيح، فقلدهم دينه واستراح، وعلم أن الدين إنما هو بالتقليد، والتقليد لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم].
(واعلم رحمك الله أن أهل العلم لم يزالوا يردون قول الجهمية) وذلك لكفرهم وضلالهم، والجهمية هم الذين أنكروا أسماء الله وصفاته، وقالوا: إن الله ليس له سمع ولا بصر ولا علم ولا قدرة، فهم ينفون جميع الصفات والأسماء, وهم بهذا يصفون العدم، فالشيء الذي ليس له اسم ولا صفة يكون عدماً, ولهذا كفر العلماء الجهمية وأخرجوهم من الاثنتين والسبعين الفرقة وقالوا: هم كفار؛ لأنهم ما أثبتوا وجوداً لله، ونفوا الأسماء والصفات فأنكروا بقولهم وجود الله.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (اعلم رحمك الله أن أهل العلم لم يزالوا يردون قول الجهمية حتى كان في خلافة بني فلان) يعني: بني العباس، وبالتحديد خلافة المأمون، فلما كانت خلافة المأمون ترجمت كتب اليونان والرومان، ودخل على المسلمين شر كثير، واعتنق المأمون مذهب المعتزلة وأثروا عليه، وقرب المعتزلة فصاروا أقرباءه، حتى صار رئيس القضاة في زمن المأمون أحمد بن أبي دؤاد وهو من المعتزلة، وهو الذي امتحن الإمام أحمد إمام أهل السنة، وأراده على القول بخلق القرآن فامتنع، فضُرب الإمام أحمد وسجن وسحب حتى أغمي عليه، ورفض رفضاً قاطعاً أن يقول: إن القرآن مخلوق، مع أنه مجبر ومكره له عذر.
فبعض العلماء ترخص تحت وطأة الإكراه والإلزام والجبر، فهو معذور، والله تعالى عذر المكره إذا تكلم بكلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان، قال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:١٠٦]، فتأول بعض العلماء فسلموا من العذاب، حتى قال بعضهم للإمام أحمد: لك رخصة يا إمام! لو تأولت، فامتنع الإمام وثبت, وصبر على الأذى والسجن والضرب والسحب والإيذاء, وخشي أن يتأول فيضل الناس بسببه، وقد قال له أحدهم: لو تأولت يا إمام! فقال: انظر إلى هؤلاء الكتاب، وكان هناك مساحة كبيرة من دار الخليفة كلها مملوءة من الكتاب، وكل واحد معه قلم يريد أن يكتب مقالة الإمام أحمد، أي: أنه ينتظر كلمة يتكلم بها فيكتبها, فقال: أتريد أن أضل هؤلاء؟ كلا، بل أموت ولا أضلهم.
فثبت رضي الله عنه وأرضاه في المحنة، حتى قيل: إن الخليفة الراشد أبا بكر ثبت يوم الردة، حتى أن عمر رضي الله عنه، وهو من هو أشكل عليه وقال: يا خليفة رسول الله! كيف تقاتلهم وقد صلوا، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة, ما استمسك السيف بيدي, والله لو لعبت الكلاب بخلاخل أمهات المؤمنين لقاتلتهم حتى يؤدوا إلي ما أدوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فشرح الله صدر عمر لرأي أبي بكر، وثبت ثبوت الجبال الراسيات رضي الله عنه وأرضاه، فأجمع الصحابة على قوله وأخذوا برأيه وأنه على الحق، فشرحت صدورهم لذلك، حتى قال بعض المسلمين: لولا أن الله ثبت أبا بكر لما عبد الله في الأرض، ولأطبقت العرب على الردة إلا من ثبته الله.
فثبت الله الجزيرة بـ أبي بكر رضي الله عنه يوم الردة, والإمام أحمد يوم المحنة، وقد اختبر المأمون -بناء على رأي المعتزلة الذين أثروا عليه- الإمام أحمد، وألزموا أهل السنة أن يقولوا: إن القرآن مخلوق، وأمر الخليفة بأن يؤتى بالعلماء من أنحاء الخلافة مقيدين بالسلاسل, فمن لم يقل بأن القرآن مخلوق أوذي وسحب وضرب وألقي في السجون، فمنهم من تأول، ومنهم من مات في السجن، ومنهم من مات في الطريق، ومنهم الإمام أحمد الذي رفض وامتنع على الرغم من شدة ما لقي من العذاب.
(حتى كان في خلافة بني فلان -أي: بني العباس- تكلم الرويبضة في أمر العامة) والرويبضة: الجاهل الذي ليس عنده علم فيتكلم في أمر العامة بسبب فساد أمر الناس، وإلا فإن الرويبضة لا يتكلم في وقت قوة الإسلام وظهوره.
(وطعنوا على آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: الحديث، وأخذوا بالقياس والرأي، وهو يقصد المعتزلة الذين يأخذون بآرائهم وأهوائهم وشهواتهم ويتركون النصوص.
(وكفروا من خالفهم) فكل من لم يقل: القرآن مخلوق كافر عند المعتزلة.
(فدخل في قولهم الجاهل والمغفل) فالجاهل لجهله تبع المعتزلة والمغفل كذلك, أما صاحب البصيرة والفطنة فلا يقبل قولهم.
إذاً: دخل في قولهم ثلاثة أصناف من الناس: الصنف الأول: الجاهل, والثاني: المغفل, والثالث: الذي لا علم له.
(حتى كفروا من حيث لا يعلمون) أي: بهذه المقالة.
(فهلكت الأمة من وجوه) أي: هلكت الأمة من هذا الوجه حيث إنهم صدقوهم وأخذوا بقولهم.
(وكفرت من وجوه) يعني: من تبعهم في القول بخلق القرآن.
(وتزندقت من وجوه) الزندقة هي النفاق، أي: أن من الناس من كفر، ومن الناس من تزندق وصار منافقاً، ومن الناس من ضل وصار مبتدعاً, والنتيجة أن هلكت الأمة من هذه الوجوه.
(إلا من ثبت على قول رسول صلى الله عليه وسلم وأمره وأمر أصحابه، ولم يخطئ أحداً منهم، ووسعه ما وسعهم, ولم يرغب عن طريقتهم ومذهبهم) أي: لم يرغب عنها بل رغب فيها.
(وعلم أنهم كانوا على الإسلام الصحيح والإيمان الصحيح) أي: تيقن أن الصحابة كانوا على الإسلام الصحيح والإيمان الصحيح.
(فقلدهم دينهم واستراح) يعني اتبعهم، وليس معناه التقليد بغير بصيرة.
(وعلم أن الدين إنما هو بالتقليد, والتقليد دين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم) والمراد بالتقليد الاتباع، وإلا فالتقليد مذموم إذا كان بغير بصيرة.