للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[خطر علم الكلام على الناس في أديانهم]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [واعلم رحمك الله أنه ما كانت زندقة قط ولا كفر ولا شك ولا بدعة ولا ضلالة ولا حيرة في الدين إلا من الكلام وأهل الكلام والجدال والمراء والخصومة، والعجب كيف يجترئ الرجل على المراء والخصومة والجدال والله تعالى يقول: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر:٤]، فعليك بالتسليم والرضا بالآثار وأهل الآثار، والكف والسكوت].

الزندقة معناها: النفاق، والزنديق هو المنافق، وهي كلمة فارسية، والزنديق هو من يظهر الإيمان ويبطن الكفر، وقد كان يقال له في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: منافق، كـ عبد الله بن أبي وأصحابه، فقد كانوا يظهرون الإيمان والإسلام، ويصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويجاهدون معه وهم في الباطن مكذبون، فهم في الدرك الأسفل من النار، قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:١٤٥].

ويطلق الزنديق على المتحلل من الدين، وأصلها كلمة فارسية ثم عربت، وفي زمننا هذا يسمى المنافق علمانياً، فالعلماني هو المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، فتجده يتستر باسم الإسلام وهو ينشر الإلحاد والزندقة، وينشر الفساد بين المسلمين.

قوله: (واعلم رحمك الله أنه ما كانت زندقة) يعني: نفاق (ولا كفر) أي: الكفر المعلن، فالكافر الذي أعلن كفره يقال له: كافر، والذي أخفى كفره يسمى زنديقاً أو منافقاً، (ولا شك) يعني: لا شك في الدين، أو لا شك في ما هو معلوم من الدين بالضرورة (ولا بدعة ولا ضلالة ولا حيرة في الدين إلا من الكلام) أي: بسبب أهل الكلام كالجهمية والمعتزلة والأشاعرة، فقد تكلموا في الصفات وفي الأفعال بالباطل فنشأ من ذلك الكفر والزندقة والنفاق والشك والحيرة.

إذاً: فينبغي للإنسان أن يحذر من الكلام؛ لأن الكلام وأهل الكلام هم الذين تكلموا في الأسماء والصفات بغير بصيرة فنشأ من كلامهم الزندقة والكفر والشك والبدعة والضلال والحيرة في الدين.

وأصحاب الكلام هم أصحاب الجدال والمراء والخصومة في الصفات، وفي القدر وفي مسمى الإيمان، وهكذا حصلت الحيرة والنفاق والزندقة والجدال والمراء والخصومة بسببت هذا النفاق، فسببت الزندقة والحيرة والشك والبدعة والضلالة.

يقول المؤلف: (والعجب كيف يجترئ الرجل على المراء والخصومة والجدال والله تعالى قد ذم المجادلين: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر:٤]، فعليك بالتسليم والرضا بالآثار وأهل الآثار والكف والسكوت)، أي: عليك أيها المسلم! التسليم لأمر الله وأمر رسوله، فإذا جاءك حديث فقل: سلمت ورضيت وقبلت، وكف واسكت عن الخوض والجدال في الدين بغير بصيرة، وعليك بالتسليم لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم والرضا بالآثار.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [والإيمان بأن الله تبارك وتعالى يعذب الخلق في النار في الأغلال والأنكال والسلاسل، والنار في أجوافهم وفوقهم وتحتهم، وذلك أن الجهمية -منهم هشام الفوطي - قال: إنما يعذب الله عند النار، ردّ على الله وعلى رسوله].

يجب على المؤمن أن يؤمن بهذا: أن الله يعذب الخلق في النار في الأغلال والأنكال والسلاسل، وقد أخبر الله تعالى أن النار تغمرهم، وأن النار في أجوافهم وفوقهم وتحتهم، قال الله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:٤١] أي: وطاء وغطاء، فهم يفترشون النار ويتخذونها غطاء، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:٣٦]، وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:٥٦]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:٦٩ - ٧٢]، نسأل الله السلامة والعافية، فلابد من الإيمان بهذا.

قال المؤلف رحمه الله رداً على هشام الفوطي وهو ابن عمرو من أصحاب أبي هذيل العلاف شيخ المعتزلة في القرن الثالث الهجري، يقول هشام الفوطي: إنما يعذب الله عند النار، رد على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، يعني: أن الله يعذب عند النار لا بالنار، وهذا يشبه مذهب الأشاعرة الذين ينكرون الأسباب، ويقولون: السكين لا تقطع وإنما أوجد الله القطع عند إجراء السكين لا بالسكين، وهذا نفي للأسباب، فالأشاعرة يقولون: ليس هناك أسباب ولا غرائز ولا طباع، فالله هو الذي يفعل، فالسكين مثلاً ليس لها تأثير عندهم، فإذا قيل لهم: إن السكين تقطع، قالوا: لا، السكين لا تقطع، وإنما يوجد الله تعالى القطع عند إمرار السكين، فالقطع يحصل عند السكين لا بالسكين، وإذا قيل لهم: النار تحرق، قالوا: لا، النار لا تحرق، بل الله يوجد الإحراق عند النار لا بالنار، وإذا قيل لهم: الأكل يشبع، قالوا: لا، الأكل لا يشبع، ولكن الله يوجد الشبع عند الأكل لا بالأكل، وإذا قيل لهم: الماء يروي، قالوا: الماء لا يروي، لكن الله يوجد الري عند الشرب لا بالشرب، وقصدهم من هذا إنكار الأسباب والغرائز والطبائع؛ حتى لا يكون هناك مؤثر إلا الله.

والقرآن والسنة مملوءان بذكر الأسباب والغرائز قال: {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ} [الأنعام:٩٩] فهذا سبب، وقوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} [الإسراء:٥٩] فهذه علة، وقوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة:٣٢]، وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل:٧٩]، {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد:٤]، {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [الأنعام:١٢٦] وهكذا فالنصوص من الكتاب والسنة كثيرة في بيان الأسباب والطبائع والغرائز، فـ هشام الفوطي يقول: إنما يعذب الله عند النار، يعني: لا بالنار، ردّ على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وقوله هذا باطل، وقد بين المؤلف بطلان قوله.

<<  <  ج: ص:  >  >>