أفكار من يعظمونه لم يبالوا برده وإطراحه ولو كان صحيحًا أو حسنًا، ومن نظر في كتبهم رأى من ذلك الشيء الكثير، وقد قلدَّهم ابن محمود في رد أحاديث المهدي وإطراحها، وزعم أنها كلها مختلقة ومكذوبة ومصنوعة وموضوعة ومزورة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه، فلا يجوز النظر فيها فضلا عن تصديقها، وزعم أيضًا أنها خرافة وأنها نظرية خرافية وأنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة. هكذا جازف وخرج عن حد المعقول إلى غير المعقول، وقد قال الله -تعالى-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}، أما يخشى ابن محمود أن يكون داخلا في عموم المشاقين للرسول - صلى الله عليه وسلم - المتبعين غير سبيل المؤمنين؟ أما يخشى أن يحشر في زمرة المكذبين للرسول - صلى الله عليه وسلم -؟
الوجه الثاني: أن يقال: إن الحكم على بعض الأحاديث بأنها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه، لا يكتفي فيه بمجرد الدعوى كما فعل ذلك ابن محمود، وكما كان يفعله غيره من العصريين، بل لا بد أن يكون في أسانيدها بعض الوضاعين، ولا بد أن يذكر القادح فيها كلام أئمة الجرح والتعديل في الراوي المتهم بالوضع؛ لتكون الدعوى مقرونة بالبينة، فأما بهت الأبرياء بأنهم وضعوا أحاديث لا علاقة لهم بها وليسوا من رواتها، فهذا لا شك في تحريمه، فإن كان المبهوت مسلمًا غير متهم في دينه؛ مثل عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، فبهته كبيرة من الكبائر؛ لقول الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}.
وقال ابن محمود في صفحة (٧): "فهذه الأحاديث التي رواها أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، هي التي حملت بعض علماء السنة لكثرتها على التصديق بها، فقبلوها قاعدة مسلمة وعقيدة محترمة، سامعين مطيعين لها بدون تفكر ولا تدبر، كالشيخ صديق، والشوكاني، والسفاريني، والشيخ مرعي، والعبادي، وسائر العلماء من المتأخرين، فلو أن هؤلاء حققوا النظر بإمعان وتفكر في أحاديث المهدي التي رواها أبو داود، وابن ماجة، والترمذي، فقابلوا بعضها ببعض لعرفوا من مجموعها حقيقة التعارض والاختلاف، ولظهر لهم منها ما يوجب عليهم الرجوع عن التصديق بها، وكون أكثرها قضايا أحداث وقعت مع أشخاص، ولا ذكر للمهدي فيها".