ومن المعلوم أن مصدر الجرح والتعديل هو سبر مرويات الرواة. وهل توفرت لدينا المرويات حتى نقوم بالمقارنة؟ ثم يزداد الأمر تعقيدا أننا لا نميز بين التفرد المقبول وبين التفرد غير المقبول، وبين خطأ الراوي الثقة وبين صوابه.
وكيف نطالَب بعدم تقليد القدامى؟ والمحدث الناقد أو إمام الجرح والتعديل ليس من عادته عند تضعيف الراوي أن يذكر جميع ما أنكر عليه من الأحاديث، وحتى الإمام ابن عدي الذي يولي اهتماما بالغا بذكر المرويات عند ترجمة الراوي المتكلم فيه في كتابه الكامل لا يوردها على سبيل الاستيعاب في كثير من الأحيان.
ثم إن الإنسان الذي لم يفهم لغة المحدثين، ومصطلحاتهم ومواقع استعمالهم، ولم يطلع على حقيقة هذا العلم، وليس له خبرة علمية كافية في هذا المجال، لا يسعه إلا أن يجمع نصوص النقاد ويحاول فهمها ويحترمها. ولا يمكننا إصدار حكم فيما يخص الإسناد لا بالانقطاع ولا بالتدليس بناء على سبر مرويات الراوي وتمييز ما سمع مما لم يسمع، وكيف يمكننا ذلك ونحن حاطبوا ليل، لا نعرف سوى إطلاق القواعد. فمثلا إذا وجدنا رواية الراوي المدلس معنعنة ورواية أخرى فيها حدثنا نحكم مباشرة بالاتصال دون أن نراعي أو نتأمل في مدى احتمال كلمة (حدثنا) خطأ أو وهما من الراوي المتأخر.
وكل من يعرف قدر نفسه ومبلغ علمه يجزم بذلك. (رحم الله امرءا عرف قدر نفسه).
يقول الحافظ ابن عبد البر في مبحث العنعنة:(إنه لا اعتبار بالحروف والألفاظ، وإنما هو باللقاء والمجالسة والسماع)(مقدمة التمهيد١/ ٢٦).
وأين الذين يستروحون ويعتمدون ظاهر الرواية، وما ورد فيها من صيغ التلقي دون تدقيقها وتمييز ما صح منها مما لم يصح من هذا النص؟
فإنهم لا يميزون بمنهجهم هذا بين المدلس وبين غيره.
ويقول ابن حبان:(فإذا صح عندي خبر من رواية مدلس أنه بين السماع فيه، لا أبالي أن أذكره من غير بيان السماع في خبره بعد صحته عندي من طريق آخر)(صحيح ابن حبان ١/ ١٥١).