للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قلت: ومن عجائب القدر، أن ابن العربي الذي أدرك هذه الحقائق وانتقد شيخه ومحبه من أجلها، نراه قد تأثر هو الآخر بالتأويل فقرره في كتبه على الطريقة الغزالية، مع اختلاف كثير (١) في التفصيلات التي تنجم عند تطبيق قانون التأويل على المسائل العقدية (٢).

وقد ذكر شيخ الإِسلام ابن تيمية أن الغزالي قد سبقه إلى هذا القانون جماعة من المتكلمين مثل الباقلاني والجويني (٣)، وقد رجعت إلى كتب الباقلاني فلم أهتد إلى نصوص صريحة تدل على تبلور هذه الفكرة بشكل منهجي منظم، وإن كانت روح التأويل سارية في كل كتاباته، أما في كتب أبي المعالي الجويني فقد عثرت على النصوص التالية والتي تمثل الأساس الذي بني عليه الإِمام الغزالي أفكاره وكذا الأشاعرة من بعده إلى يومنا هذا.

يقول الجويني: " ... اعلموا -وفقكم الله- أن أصول العقائد تنقسم إلى ما يدرك عقلاً، ولا يسوغ تقدير إدراكه سمعاً، وإلى ما يدرك سمعاً ولا يتقدر إدراكه عقلاً، وإلى ما يجوز إدراكه سمعاً وعقلاً (٤) ... فإذا ثبتت هذه المقدمة فيتعين على كل معتنٍ بالدين واثق بعقله أن ينظر فيما تعلقت به الأدلة السمعية، فإن صادفه غير مستحيل في العقل، وكانت الأدلة السمعية قاطعة في طرقها، لا مجال للاحتمال في ثبوت أصولها ولا في تأويلها، فما هذا سبيله، فلا وجه إلاَّ القطع به.

وإن لم تثبت الأدلة السمعية بطرق قاطعة، ولم يكن مضمونها مستحيلًا في العقل، وثبتت أصولها قطعاً، ولكن طريق التأويل يجول فيها، فلا سبيل


(١) ذكر شيخ الإِسلام ابن تيمية أن ابن العربي قد خالف شيخه الغزالي في كثير من المسائل التي سأله عنها. درء تعارض العقل والنقل: ١/ ٥.
(٢) انظر فصل: "ذكر المعنى الذي أوجب العثور في النظر" من كتاب "قانون التأويل" الذي نحن بصدد تحقيقه والتعليق عليه، وانظر العواصم من القواصم: ١٢٦، ٣٢٤، ٣٢٧، ٣٣٣.
(٣) درء تعارض العقل والنقل: ١/ ٦.
(٤) الجويني: الإرشاد: ١/ ٣٥.

<<  <   >  >>