كتاب الله صبرهم على أذى المكابرين، وإعراضهم عن مهاترات الكافرين، واستهانتهم بما يصب عليهم من وابل النقد والتجريح من طرف السفهاء الجاهلين، فقال تعالى:{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} و " اللغو " ما حقه أن يلغى ويترك من العبث وغيره، ثم عقب كتاب الله على هذه الظاهرة المستحسنة التي برزت في سلوك فريق من أهل الكتاب؛ فآمنوا بالدين الجديد، ونالوا أحسن الجزاء على ما قاموا به من عمل صالح والتزموه من قول سديد؛ مؤكدا لرسوله أن إلقاء نور الهداية إلى الحق في قلب هذا الفريق أو ذاك، أو هذا الفرد أو ذاك، أمر فوق طاقة الرسول مهما كان حريصا عليه؛ ولو كان الأمر يتعلق بأقرب الأقربين إليه. ذلك أن نور الهداية إلى الحق لا يحتل قلب أحد إلا إذا صاحبته العناية الإلهية، ورافقه التوفيق، في جميع خطوات الطريق {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}. ولا تناقض بين قوله تعالى هنا:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وقوله تعالى في آية أخرى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الشورى: ٥٢]؛ لأن المقصود بالهداية في الآية الأولى هو إمالة القلب من الباطل إلى الحق؛ وذلك من خصائص قدرة الحق سبحانه، والمقصود بالهداية في الآية الثانية هو مجرد التبليغ والدعاء إلى الحق؛ وذلك واجب في حقه صلى الله عليه وسلم؛ إذ ما بعثه الله إلا رحمة للخلق {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ}[النمل: ٨١].