الإنسان هو الذي سخر الله له ما في السماوات والأرض وخلق له ما في الأرض جميعا؟ أليس الإنسان هو الذي كرمه الله فخلقه في أحسن تقويم، وحمله في البر والبحر، وفضله على كثير ممن خلقه تفضيلا؟ لذلك كله أصبح الإنسان يشعر من أعماق قلبه بأنه هو المخلوق الوحيد المؤهل لحمل تبعة الأمانة ومسؤولية التكليف، وأدرك تمام الإدراك أنه لا يكون منطقيا مع نفسه إلا إذا تقدم ورشح نفسه أمام ربه لهذه المهمة السامية وهذا العبء الجسيم، إيمانا منه بأن الحقوق والمزايا التي منحه الله إياها - تفضلا منه وكرما- لا يعقل أن يتمتع بها ويمارسها، دون أن يقوم بواجبات تقابلها، ويتحمل تبعات تستتبعها وتنشأ عنها.
وتمثيلا لعظمة قدر (الأمانة) التي رشح الإنسان نفسه لحملها، وتصويرا لخطورة مسؤوليتها وتبعاتها ضرب كتاب الله المثل بالسماوات والأرض، وخص منها الجبال بالذكر، لكونها أوتاد الأرض الصلبة، ورواسيها الثابتة، التي لها علاقة وثيقة باستقرارها وتوازنها، مبينا أن السماوات والأرض التي التزمت منذ نشأتها بطاعة الله طاعة مطلقة، قائمة على مجرد (التسخير)، لا تريد أن تزج بنفسها في أمر التسيير والتدبير، ومن أجل ذلك أشفقت كل الإشفاق من عرض الأمانة عليها، واستعفت من حملها وتحمل مسؤوليتها، بالرغم مما تتوافر عليه من خصائص الطبيعية الكبرى التي لا نسبة بينها وبين خصائص الإنسان، {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}(٥٧: ٤٠)، وإلى ذلك المثل يشير قوله تعالى هنا: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى