إذ بمجرد ما بلغتهم أصداء ذلك الحدث الخطير هبوا مسرعين إلى معبدهم للدفاع عن أصنامهم، ولما واجهوا هذا العمل بالاستنكار واجههم إبراهيم بالحق الصراح الذي ليس عليه غبار، فأخذ يسأل ويتساءل هل من المعقول أن يعبد الإنسان الصنم الذي ينحته بيده من الحجر، ولا يعبد الله الذي خلق البشر، وخلق ما يعمله كل من صنع ومهر، واخترع وابتكر، إذ لولا المواهب والملكات التي وهبها الله للإنسان، والمواد الخام التي سخرها له، لما كان أي شيء من ذلك في حيز الإمكان:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}، وروى البخاري في صحيحه من حديث حذيفة مرفوعا:(إن الله تعالى يصنع كل صانع وصنعته).
وأجمل كتاب الله في هذه السورة ما قام به قوم إبراهيم من " تحقيق " في هذه الحادثة التي أثارت غضبهم، وهيجت تعصبهم، وما آل إليه " التحقيق " من محاكمة علنية أصدروا الحكم في إثرها بإعدام إبراهيم حرقا، بدلا من إعدامه شنقا، مبالغة في العقاب والتعذيب، لكي لا يتجرأ أحد بعده على سلوك مسلكه الشاذ والغريب، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا:{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ}، أي: في النار الموقدة، لكن الله تعالى لم يحقق حلمهم، ونقض حكمهم:{فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ}، وسبق في سورة الأنبياء عرض هذا الجانب وغيره من قصة إبراهيم بتفصيل أكثر، ابتداء من الآية الواحدة والخمسين حيث قال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}، إلى قوله تعالى في نفس السياق: {قَالُوا