التقوى والنسك والتجرد لله، غير أن في تعبيرها كلمة جديرة بالتعليق ولفت النظر، ألا وهي كلمة (مُحَرَّرًا) بعد قولها {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} فهذه الكلمة تعني عزم امرأة عمران بنية صادقة على أن تجعل جنينها ووليدها (مُحَرَّرًا) من كل التكاليف العادية، والالتزامات العائلية واليومية، حتى يكرس حياته كلها لعبادة الله دون شاغل يشغله، لا من أمر نفسه ولا من أمر عائلته، كما تعني هذه الكلمة أن امرأة عمران تتمنى على الله أن يكون جنينها ووليدها عبدا خالصا لله، محررا من كل رق أو خضوع لسواه، بحيث لا يسلم وجهه إلا إليه، ولا يعتمد إلا عليه، إذ إن التعبد لله على وجهه الصحيح هو التحرر الكامل، نفسيا وأخلاقيا.
وقوله تعالى على لسان امرأة عمران {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} لم يرد في سياق التنقيص من المرأة أو الحط منها، بل إن السياق العام الذي جاءت فيه نفس هذه الآية هو على العكس من ذلك سياق تكريم للمرأة وتمجيد لها في شخص امرأة عمران أم مريم، وفي شخص مريم أم عيسى، فهذا الربع كله تقريبا يتحدث في شخصهما عن الدرجة العليا عند الله والمكانة المرموقة عند الناس، اللتين تستطيع أن تصل إليهما المرأة، متى التزمت في سلوكها سيرة التقوى وطريق الصلاح.
وإذن فالمراد من آية {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} إنما هو مجرد تقرير حقيقة فطرية وطبيعية، هي أن الله تعالى خلق الذكر لأمر، وخلق الأنثى لأمر آخر، وليس كل ما يمكن القيام به لأحدهما ممكنا للثاني، فطبيعتهما مختلفة، ومهمتهما متنوعة، وهما عنصران