والآن فلننتقل إلى " سورة التغابن " المدنية أيضا، وقد سميت بهذا الاسم أخذا من قوله تعالى فيها:{ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}، وهي آخر السور المبدوءة بتسبيح الله، المعروفة " بالمسبحات " بين سور القرآن الكريم.
وبعدما سجلت فاتحة هذه السورة توجّه جميع المخلوقات إلى ربها بالتنزيه والحمد:{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، إن لم يكن منها كلها بلسان المقال، فبلسان الحال في كل الأحوال، انتقلت الآيات الكريمة إلى التعبير عن حقيقة طبيعية ونفسية ميز الله بها الإنسان من بين المخلوقات، ألا وهي تزويده بالاستعداد التام، للاتجاه نحو الخير إن أراده، والاتجاه نحو الشر إن رغب فيه، وجعله حرا في اختيار ما يشاء من الهدى أو الضلال، وهذا المعنى هو المراد بقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}، أي أن من اختار الكفر منكم كفر، ومن اختار الإيمان منكم آمن، ومن حرية الاختيار التي زود الله بها الإنسان نشأت مسؤوليته عن عمله، وجزاؤه خيرا إن عمل خيرا، وشرا إن عمل شر. أما من ناحية الخلق والتكوين فقد خلق الله الإنسان متساويا مزودا بنفس الملكات اللازمة، ونفس الأجهزة الضرورية، وله بعد ذلك أن يختار، وعليه أن يتحمل مسؤولية اختياره في الدنيا وفي الآخرة، وقد جاء التعقيب المناسب على ذلك بقوله تعالى:{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}،