للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثالثة: أَنَّهُ روحٌ من عند الله: (وَرُوحٌ منهُ) .

أَيْ: أَنَّ اللهَ خَلَقَ روحَ عيسى - عليه السلام -، كما خَلَقَ روحَ أَيِّ إِنسان، سواءٌ كانَ نبيّاً أَو إِنساناً عاديّاً، وأَمَرَ جبريلَ الروحَ القُدُسَ أَنْ يحملَ روحَ عيسى المخلوقة، وأَنْ ينفُخَها في مريمَ العذراءِ البتولِ - عليها السلام -، ففعل، وحملَتْ بعيسى بأَمْرِ الله (١) .

و" مِنْ " في قوله: (وَرُوحٌ منْهُ) بيانيَّة، وليستْ تبعيضيَّة، تُبَيِّنُ أَنَّ روحَ

عيسى التي نُفخَتْ في فَرْجِ مريمَ إِنما هي من عندِ الله.

وقد حَرَّفَ الفادي المفترِي صفاتِ عيسى - عليه السلام - الثلاثةَ: " رسولُ اللهِ وكلمتُه أَلْقاها إِلى مريم وروحٌ منه " لتكونَ أَقانيمَ ثلاثةً يؤمنُ بها النصارى: " اللهُ وكلمتُه وروحُه "، وكَذَبَ المفترِي في قولِه: " والكلُّ في ذاتٍ واحدة ".

فالأَقانيمُ الثلاثةُ: الآبُ والابنُ والروحُ القُدُسُ ثَلاثُ شخصياتٍ منفصلة، وليستْ ذاتاً واحدة.

أَما الصفاتُ الثلاثةُ المذكورةُ في القرآن: " عيسى ابنُ مريم: رسولُ الله،

وكلمتُه أَلْقاها إِلى مريمَ، وروحٌ منه " فهي ثلاثُ صفاتٍ لِذاتِ المسيحِ

وشخصِه - عليه السلام.

فالمسيحُ رسولُ الله، وهو نفسُه كلمةُ الله، خُلِقَ بكلمةِ " كُنْ "

الإِلهية، وهو نفسُه روحٌ من الله، الروحُ التي في بَدَنِه من عندِ الله.

وانتقلَ الفادي المفترِي إِلى افتراءٍ آخَرَ يتعلَّقُ بالثالوث، زَعَمَ فيه التقاءَ

القرآنِ مع الإِنجيلِ في القولِ بالثالوث!! قال: " وقد اتفقَ القرآنُ مع الكتابِ

المقَدَّسِ في إِسنادِ الفعلِ وضميرِ المتكلمِ في صيغةِ الجَمْعِ إِلى الله..

ولم يَرِدْ في الكتابِ المقَدَّسِ ولا في القرآنِ كلامُ مخلوقٍ كائناً مَنْ كان تَكَلَّمَ عن نفسِه بصيغةِ الجَمْع، مما يدلُّ على وحدةِ الجوهرِ مع تَعَدُّدِ الأَقانيمِ في الذاتِ

العلية.

فمثلاً وَردَ في سورةِ البقرة: (نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) ، بصيغةِ الجمع، وَوَرَدَ في سورةِ الأَعراف: (اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ) ، بصيغةِ المفرد..

فتُشيرُ الصيغةُ الأُولى إِلى جمعِ الأَقانيم، وتُشيرُ الصيغةُ الثانيةُ إِلى توحيدِ الذات.. ".


(١) قال الثعلبى:
سمعت الأستاذ أبا القاسم الحبيبي يقول: كان لهارون الرشيد غلام نصراني متطبّب وكان أحسن خلق الله وجهاً وأكملهم أدباً وأجمعهم للخصال التي يتوسل بها إلى الملوك وكان الرشيد مولعاً بأن يسلم وهو ممتنع وكان الرشيد يمنيه الأماني [فيأبى] فقال له ذات يوم: مالك لا تؤمن؟ قال: لأن في كتابكم حجة على من انتحله، قال وما هو؟
قال: قوله {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} أفغير هذا دين النصارى أن عيسى جزء منه، [فغمَّ] قلب الرشيد لذلك فدعا العلماء والفقهاء فلم يكن منهم من يزيل تلك الشبهة حتى قيل: قدم حجاج خراسان وفيهم رجل يقال له علي بن الحسين بن واقد من أهل مرو إمام في أهل القرآن، فدعاه وجمع بينه وبين الغلام، فسأل الغلام فأعاد قوله، فاستعجم على علي بن الحسين الوقت جوابه فقال: يا أمير المؤمنين قد علم الله في سابق علمه أن مثل هذا [الحدث] يسألني في مجلسك، وإنه لم يخل كتابه من جوابي وليس يحضرني في الوقت لله عليَّ أن لا أُطعم حتى آتي الذي فيأمن حقها إن شاء الله، فدخل بيتاً مظلماً، وأغلق عليه بابه [وانشغل] في قراءة القرآن حتى بلغ سورة الجاثية {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية: ١٣] فصاح بأعلى صوته: افتحوا الباب فقد وجدت، ففتحوا، ودعا الغلام وقرأ عليه الآية بين يدي الرشيد، وقال: إن كان قوله (وروح منه) توجب أنَّ عيسى بعض منه وجب أن يكون ما في السماوات وما في الأرض بعضاً منه، فانقطع النصراني وأسلم وفرح الرشيد فرحاً شديداً ووصل علي بن الحسين بصلة فاخرة فلما عاد إلى مرو صنف كتاب " النظائر في القرآن " وهو كتاب لا يوازيه في بابه كتاب. اهـ (الكشف والبيان. ٣ / ٤١٩: ٤٢٠)

<<  <  ج: ص:  >  >>