للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لقد شاءَ اللهُ أَنْ يُسحرَ رسولُه - صلى الله عليه وسلم -، وذلك تأكيدٌ لبشريَّتِه وضعْفهِ؛ لأَنَّ كُلَّ بشر مخلوقٌ ضَعيف، تؤثَرُ فيه الأَسبابُ بأَمْر الله، والذي سَحَرَه هو اليهوديُّ " لَبيدُ بنُ الأَعْصَم "، حيثُ أَخَذَ مِشْطاً كان يُمَشِّطُ فيه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَعْرَهُ، وفيه " مشاطةٌ "، وهي بقيةُ الشَّعْرِ الذي عَلِقَ من رأسِه بالمشط، وَرَبطَ المشط

والمشاطةَ في " جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَر "، وهو الغشاءُ الذي على طَلْعِ البَلَحِ عند بدايةِ خروجِه من كُمِّه على النخلة.

وَوَضعَ المشْط والمشاطَةَ والجُفَّ الغشاءَ في قَعْر بئرِ ذي أَروان، والماءُ الذي فيها قليل.

وشاءَ اللهُ أَنْ يُؤَثِّرَ هذا السحرُ في الجانبِ المادِّيِّ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، أَيْ أَنَّه أَثَّرَ في جِسْمِهِ فقط، ولم يُؤَثِّرْ في عَقْلِه وإدراكِه، كما أنه لم يُؤَثِّرْ في رسالتِه أَو الوحيِ الذي يَتَلَقّاهُ من الله، ولم يُؤَثَرْ في عبادَتِه ودعوتِه وذِكْرِه لله..

أَقصى ما أَثَّر فيه السحرُ كما أَخْبَرَتْ عائشة - رضي الله عنها - أَنه كانَ يُخَيَّلُ إليه أَنه فعل الشيءَ وما فعلَه، ولم يستمرَّ هذا فيه طويلاً، حيثُ كانَ - صلى الله عليه وسلم - يلجأُ إلى الله، يَدْعوهُ ويتضرَّعُ إليه، كي يُذهبَ عنه ما أَثَّر فيه..

وفي أَحَدِ الأَيّام كانَ - صلى الله عليه وسلم - عند عائشهَ - رضي الله عنها -، فدعا الله طويلاً، واستجابَ اللهُ دُعاءَه، وأَخبرَه عن حقيقةِ ما به،

وأَخبرَ عائشة - رضي الله عنها - عن ما حَصَلَ له، وأَنَّ اللهَ قد أَفْتاهُ فيما اسْتَفْتاهُ فيه، حيثُ أَرسلَ إِليه ملكَيْنِ في صورةِ رجلَيْن.

فجلسَ أَحَدُهما عند رأْسِه، وجلسَ الآخَرُ عند رجلَيْه، وجَرى بينهما حوارٌ على مسمَع منه - صلى الله عليه وسلم -، وعَرَفَ منهما أَنَّ لَبيدَ بن

الأَعصم اليهوديَّ سَحَرَه، وأَنه وَضَع السِّحْرَ في قعرِ بئرِ ذي أَروان.

وعافاهُ الله، وأَذْهَبَ عنه ما أَثَّر فيه.

وذهبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى البئر، وعادَ إلى عائشةَ - رضي الله عنها - وأَخْبَرَها عنها: ماؤُها قليلٌ أَحمرُ كأنَّه حِنّاء، وعليها نَخْلٌ مثمرة، ثَمَرُها كأَنه رؤوسُ الشياطين.

وأَمَرَ - صلى الله عليه وسلم - بدفن المادَّةِ التي سُحِرَ فيها، ولما اقترحَتْ عليه عائشةُ - رضي الله عنها - أَنْ يُخرِجَها، وأَنْ يَتَنَشَّرَ، أَيْ أَنْ يُعالجَ نفسَه بالرُّقْيَة، رَفَضَ ذلك، وقال: لقد عافاني اللهُ وشفاني فلن أَتَنَشَّرَ، حتى لا أَثيرَ على الناسِ من ذلك السحرِ شَرّاً.

وبهذا انتهتْ هذا الحادثةُ العابِرة، التي مَرَّتْ برسولِ اللهِ - عليه السلام - مُروراً

<<  <  ج: ص:  >  >>