للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال المازني (١): يقال عميق ومعمق.

وقال رؤبة (٢):

وقَاتِم الأعْمَاقِ خَاوي المُخْتَرَقْ (٣)

فالأعماق جمع عمق، والمعمق هاهنا الذاهب على وجه الأرض المخترق حيث صار خرقا، والخرق الفلاة تنخرق (٤) في الفلاة.

وقال قتادة: من مكان بعيد (٥)، وقوله يشبه قول أبي إسحاق الزيادي (٦) أنه

الموضع البعيد على وجه الأرض، وقال الشاعر:

يقطعن بُعْدَ النازح العميق (٧)

قال مجاهد: حج إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما مشاة (٨)، وقال: أهبط آدم - صلى الله عليه وسلم - بالهند فحج البيت على قدميه أربعين حجة (٩).

قال الله تبارك وتعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (١٠).

قال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو رزين (١١): المنافع التجارة (١٢).

وقال أبو جعفر محمد بن علي (١٣): المغفرة (١٤).

وقول من قال: التجارة، فبعيد من القلب بعدا شديدا؛ لأنهم يصير المعنى أنهم يأتون من كل فج عميق ليتجروا لا لشيء سوى ذلك، ولو كان ذلك كذلك لذهب المعنى الذي أجابوا إليه حين دعاهم إبراهيم - عليه السلام - في قوله عز من قائل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (١٥) فيصير الناس إنما أتوا لغير ما دعوا إليه، وهذا ما لم أكن أحب أن أذكره رواية عمن قدمت ذكره، ولكن كرهت أن يظن بي إغفالا، وإنما المعنى {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} شهود عرفة ومزدلفة ومنى وطواف الإفاضة، هذه هي المنافع التي يأتون ليشهدوها، ولينحروا ما كان معهم من الهدي، فهذه الأفعال كلها خالصة لله، وأرخص لهم بعد ذلك في التجارة حين تَوقَى الناس أن يتشاغلوا بها في الحج الذي قصدوا إليه لربهم، وأنزل عليهم: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (١٦) فأرخص لهم في ذلك إذ لا يشغلهم عن أعمال الحج التي قصدوا لها، وقد كانت الجاهلية لا يستحلون التجارة في الحج، فإذا كانت التجارة هذا حكمها، فكيف يكون أن يقال في قوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} أنها التجارة، والله أعلم (١٧)

قال الله عز وعلا: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (١٨).


(١) هو: بكر بن محمد بن عدي المازني، أبو عثمان البصري، إمام العربية، أثنى عليه المبرد كثيرا، من مصنفاته التصريف، توفي سنة ٢٤٧ هـ. ينظر: معجم الأدباء (٢/ ٣٤٥) وسير أعلام النبلاء (١٢/ ٢٧٠).
(٢) هو: رؤبة بن العجاج ويكنى أبا الجحاف، واسم أبيه عبد الله بن رؤبة بن زيد مناة الراجز المشهور من مخضرم الدولتين، ومن أعراب البصرة، توفي سنة ١٤٥ هـ. ينظر: طبقات فحول الشعراء (٢/ ٧٣٨) معجم الأدباء (٣/ ٣٤١).
(٣) هذا صدر بيت لرؤبة، وعجزه: مُشْتَبِهِ الأَعْلامِ لَمَّاعِ الخَفَق.
ينظر: الأغاني (٢٠/ ٣٦٢) وطبقات فحول الشعراء (٢/ ٧٦١) ومعجم مقاييس اللغة مادة: خرق
قوله: قاتم الأعماق: أي مغبر النواحي والأطراف. ينظر: اللسان مادة: قتم.
وقوله: خاوي المخترق: أي الممر. ينظر: اللسان مادة: خرق.
قال ابن العربي في بيان معنى هذا البيت: " يريد بالأعماق الأبعاد، ترى عليها قتاما يخترق منها جوا خاويا، وتمشي فيه كأنك وإن كنت مصعدا هاو، ولذلك يقال: بئر عميقة أي بعيدة القعر " أحكام القرآن (٣/ ٢٨١).
(٤) لوحة رقم [٢/ ١٨٧].
(٥) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (٣/ ٣٦).
(٦) هو: إبراهيم بن سفيان الزيادي، تقدم.
(٧) لم أجده.
(٨) أخرجه الطبري في تفسيره (٩/ ١٣٧).
(٩) أورده العيني في عمدة القاري (٩/ ١٣٠) وقال: " وذكر إسماعيل بن إسحاق عن مجاهد قال: أُهبط آدم - عليه السلام - بالهند فحج على قدميه البيت أربعين حجة ".
وأخرجه الطبري في تاريخه (١/ ٨١) والبيهقي في الشعب (٣/ ٤٣٤) من رواية مجاهد عن ابن عباس.
(١٠) سورة الحج (٢٨).
(١١) هو: مسعود بن مالك الأسدي، تقدم.
(١٢) أخرجه عنهم الطبري في تفسيره (٩/ ١٣٧) بنحوه.
وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره (٣/ ٣٧) عن مجاهد أيضا.
(١٣) هو: محمد بن علي بن الحسين بن علي الهاشمي، أبو جعفر الباقر، أحد الأئمة الاثنا عشر الذين غلت فيهم الشيعة الإمامية، توفي بالمدينة ١١٤ هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء (٤/ ٤٠١) وتهذيب التهذيب (٥/ ٢٠٩).
(١٤) أخرجه الطبري في تفسيره (٩/ ١٣٧).
(١٥) سورة الحج (٢٧ ـ ٢٨). سقط من الأصل كلمة: (بالحج) وقوله: (معلومات).
(١٦) سورة البقرة (١٩٨).
(١٧) ما قرره ـ رحمه الله ـ في معنى المنافع صحيح، وهو أول ما يحمل عليه معنى المنافع، غير أنه لا معارضة بينه وبين ما روي عن بعض السلف في معنى المنافع؛ لأنهم لما ذكروا التجارة ونحوها لم يقصدوا به الحصر، وإنما من باب التمثيل، وذكر بعض أفراد العموم الذي لا يراد به الحصر، وأحسب أن كلام المؤلف لا يخرج عنه، قال ابن العربي في أحكام القرآن (٣/ ٢٨٢): " وهو الصحيح، وذلك كله من نسك، وتجارة، ومغفرة، ومنفعة دنيا وآخرة، والدليل عليه عموم قوله: (منافع) فكل ذلك يشتمل عليه هذا القول، وهذا يعضده ما تقدم في البقرة في تفسير قوله: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) وذلك هو التجارة بإجماع من العلماء ".
(١٨) سورة الحج (٢٨).

<<  <   >  >>