للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المبحث الثاني: المنهج في الاستدلال والمناقشة.]

تعتبر المسائل الفقهية المتعلقة بالحلال والحرام، هي أصل هذين الكتابين ومادتهما الأساس، فالنظر فيها نظر في الكتاب كله، ولعقد مقارنة بين المنهج الذي اتبعه القشيري أو ذاك الذي سار عليه ابن العربي، أذكر النقاط الآتية:

١. جرى القشيري في غالب كتابه، على أن يذكر الخلاف الفقهي بعد نقل كلام السلف في معنى الآية القرآنية، إلا أنه قد خالف هذه الطريقة في مواضع متعددة من كتابه، أما ابن العربي فقد تميز في عرض المسائل العلمية والفقهية باطراد طريقته وانتظام منهجه، حيث يبدأ بذكر الآية مقسما لها إلى مسائل، يتعرض في كل مسألة إلى جانب مما يتصل بالآية الكريمة، وفي ضمن ذلك الكلام عن المسائل الفقهية، وربما قسم الكلام في المسألة الفقهية الواحدة، على عدد من المسائل، يرتبط بعضها ببعض.

٢. عرض المؤلفان إلى عدد كبير من المسائل الفقهية، ولا سيما ما كان فيه خلاف مع المذاهب الفقهية المشهورة، خصوصا الخلاف مع الحنفية والشافعية، فاحتجا للمذهب، وأجابا عن قول المخالف، وأوردا عليه، وكلامهما عن المذهب المخالف، كلام عارف به مطلع على حقيقته، غير أنهما ـ أيضا ـ قد تركا الكلام عن بعض المسائل أو اختصرا، وربما أحالا على كتاب لهما آخر، بسطا القول فيه.

وهما وإن اشتراكا في هذه السمة، فقد تميز ابن العربي بالعناية بالخلاف في إطار المذهب المالكي نفسه، حيث يذكر الروايات في المذهب وقول الأصحاب، فيصحح بين تلك الروايات ويرجح (١)، ومن أمثلة ذلك ما أورده عند قوله تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} (٢) قال: " وقد اختلف علماؤنا في جعل المنافع صداقا، على ثلاثة أقوال، وكرهه مالك، ومنعه ابن القاسم، وأجازه غيرهما، وقد قال: ابن القاسم يفسخ قبل البناء ويثبت بعده. وقال أصبغ: إن نقد معه شيء ففيه اختلاف، وإن لم ينقد فهو أشد، فإن ترك مضى على كل حال، بدليل قصة شعيب، قاله مالك وابن المواز وأشهب، وعول على هذه الآية جماعة من أئمة المتأخرين في هذه النازلة، قال القاضي: صالح مدين زوج ابنته من صالح بني إسرائيل، وشرط عليه خدمته في غنمه، ولا يجوز أن يكون صداق فلانة خدمة فلان، ولكن الخدمة لها عوض معلوم عندهم، استقر في ذمة صالح مدين لصالح بني إسرائيل، وجعله صداقا لابنته، وهذا ظاهر" (٣)

أما القشيري فإنه اقتصر على ما روي عن الإمام مالك، أو ما تخرج على أصله ـ شَأْنَ المدرسة العراقية ـ ولذلك قَّل أن يشير إلى خلاف في المذهب المالكي، اقتصارا على ما ترجح عنده من أصل المذهب، وهذا ما جعل النَفَسَ المذهبي يظهر عند ابن العربي أكثر من ظهوره عند القشيري، مع اتفاقهما على تصحيح المذهب في الغالب، لَكِنَّ كلام القشيري وطريقته في العرض والمناقشة، لا تشعرك بأنه مالكي أو يناصر قول المالكية، بخلاف ابن العربي فلن تبرح قريبا حتى تدرك أنه كذلك.

٣. ومع كثرة الأقوال والآثار التي يذكرانها، فقد كانا يعزوانها إلى قائلها في غالب أمرهما، غير أني لاحظت أن القشيري أكثر عناية بهذا، أما ابن العربي فإنه وإن كان يعزوها في أحيان كثيرة، فقد وقع له على نحو كثير أن يقتصر على سرد الأقوال دون عزوها، كما وقع له عند قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (٤) حيث قال: " وفيه سبعة أقوال، الأول: ما يجري على اللسان من غير


(١) ينظر: ابن العربي وتفسيره أحكام القرآن ص ٣٠٠.
(٢) سورة القصص (٢٨).
(٣) أحكام القرآن (٣/ ٤٩٩).
(٤) سورة البقرة (٢٢٥).

<<  <   >  >>