الحمد للَّه ذي العز والجلال، والمنة والإفضال، والطَّول والكمال، القادر الغافر الظاهر، السابق الذي ليس له شريك يضاهيه، ولا وزير يواليه، جل جلاله، وتعاظمت أفعاله، له الشكر على ما منَّ به علينا، إذ أخرجنا في خير الأمم، وهدانا بخاتم أنبيائه، وهادي أوليائه، النبي الأمي الذي ختم به العاجلة، واستفتح به الآجلة، وجعله في المَحَلِّ رفيعًا، وفي المقام شفيعًا، وأنزل عليه كتابه الذي جعله نورًا وبرهانًا مبينًا، وحظر فيه حرامه، وأباح فيه حلاله، وأنار به أعلامه، وبيَّن فيه أحكامه، فنسأل الذي بالفضل حبانا، وللإسلام هدانا، أن يصليَ على محمد عبده ورسوله، وأن يَمُنَّ علينا بتوفيقه وإرشاده ومعونته، إنه على ما يشاء قدير.
أما بعد، فإن أولى ما تمسَّك به المتمسِّكون، وتدبَّره المتدبِّرون، واتمَّ به المهتدون، ولجأ إليه المعتبرون، كتابُ اللَّه الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت: ٤٢] الذي أكمل اللَّه به الدين، وأنزل اللَّه سبحانه في حجة الوداع:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة: ١٣] وقال تبارك اسمه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام: ٣٨]، وقال:{تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}[النحل: ٨٩]، فأحكم اللَّه جل جلاله الفرائض والأحكام والأصول كلها فيه جليًا وخفيًا.
فمنه ما يُعقل بنفس الخطاب، قال اللَّه تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فصلت: ٣ - ٤].
ومنه ما بيَّنه اللَّه عزَّ وجل بالوحي وهو الخفي، ألا تراه يقول:{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة: ١٩]، وقال:{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه: ١١٤]، فسأل نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- ربَّه تبارك وتعالى عن بيانه فبيَّنه له.
ومنه ما بيَّنه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بالحكمة التي أعطاه اللَّه، يقول اللَّه عز وجل:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ}[الأحزاب: ٣٤]، وقوله:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}[النحل: ٤٤].
ومنه ما شرَّف اللَّه به أصحاب نبيِّه بمشاهدتهم الأسباب التي نزل القرآن من أجلها، وسُنَّتِ السُّنن بحضرتهم عملًا وقولًا، فكانوا بالمشاهدة أعلم الخلق بما نزل، وبوجوهه وتصرُّفاته، قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ليس الخبر كالمعاينة"، وقال:"انظروا إلى فضل المعاينة على الخبر"، ونصحهم للأمة وصدقهم، فمدح اللَّه متَّبعهم فقال:{وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}[التوبة: ١٠٠]، ومتَّبعهم إنما يتبعهم فيما قالوه دون ما رَوَوه، إذ كان ما رويَ المتَّبَعُ فيه الرسولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإذا اختلفوا وجب النظر في أقاويلهم دون الخروج عنها لقوله عز وجل:{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}[الزمر: ١٨]، الأحسن ما أنتجه النظر واستخرجته الدلائل والعلل، من الأصول المجمعِ عليها من الكتاب والسنة، فبين ما اختلف فيه على علل ما اتفق عليه.
ولم يزل أهل العلم على ذلك متَّبِعين لسلفهم حتى حدث في القرن الرابع من هذه الأمة ومن تلاهم، قوم مستخِفُّون بقول السلف وله هاجِرون، وعلى مذاهبهم زارُون، يحدثون أنفسهم أن أَسَدَّ الجواب ما استخرجوه، وأعلاه ما استنبطوه، أخذوا ذلك عن أهل الزيغ، لا يعرِّجون على الرواية، ولا يلتفتون إلى باطن التلاوة، ويَرَوْن أنهم يُساوُون السلف في العلم بالكتاب، طعنًا بذلك على إخوان المصطفى، الذين فارقهم على الصدق والوفا، والطهارة والتُّقى، ولو أخذوا ذلك عن من شاهد الوحي، ونزل القرآن بلغته، لكانت هذه الطائفة قد سلكت سبيل الصواب، وصادفت سديد الجواب، ولعلمت أن عقول من تقدمهم تُربي على عقولهم، وأفهامهم تزيد على أفهامهم، ولكنهم لما خالطوا أهل الكلام، وجانبوا الورع، وصار القصدُ الغلبةَ بالجدل المحض، منعهم اللَّه التوفيق، وحاد بهم عن الطريق.
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: لم نجد (مقدمة المصنف) و (البسملة والفاتحة)، ضمن المنشور على الإنترنت من ملفات الرسالة الجامعية، فقمنا بنسخهما من نسخة (دبي)