للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وانعكست هذه الحال على عامة الناس، فقد ازدهرت تجارة الرقيق، حتى أصبحت العراق من أكبر الأسواق، ولا سيما تجارة الجواري المغنيات، اللآتي يتقن أصوات الغناء، ويُجِدْن فنون المجون، وتفنن القوم في ذلك وبلغوا حدا مسرفا، يصور ذلك ما ذكره أبو حيان التوحيدي، حيث يقول: " وقد أحصينا ـ ونحن جماعة من الكَرخ ـ أربعمائة وستين جارية في الجانبين، ومائة وعشرين حرة، وخمسة وتسعين من الصبيان البُدو، يجمعون بين الحذق والحسن، والظُّرف، والعِشرة، هذا سوى من كنا لا نظفر به، ولا نصل إليه لعزته، وحرسه، ورُقبائه، وسوى ما كنا نسمعه ممن لا يتظاهر بالغناء " (١).

بل لقد تجاوز الخطر هذا القدر، إلى أن بات للجواري والغلمان أثرهما البالغ على سياسة الدولة، وتوجيه دِفة الأمور، فكثرت الدسائس والمكائد، فيهن ومنهن، وحتى الغلمان بات منهم القادة، الذين يأتمر بأمرهم الجند، ومنهم من تولى بعض أعمال عامة الناس، كالتجارة والصناعة والزراعة، فأثّروا على أديان الناس وأخلاقهم.

وهذه الحياة الباذخة الفارهة لا بدلها من مورد لا ينضب، فما كان من الأمراء والوزراء، إلا أن تجبي الأموال والضرائب من الناس، وكثيرا ما أثقلت كواهلهم، ودقت أعناقهم، مما جعل ظاهرة اللصوص والشطار تزداد، حتى لقد عُرفت أسماء كانت كَنَارٍ في رأس علم.

ولا يظن من يقرأ هذه الأسطر، أن المجتمع قد علته الظلمة والقتامة، فأبلس من الخير، وأعدم من البر، أبدا فلم تزل ـ بحمد لله ـ في ذلك الوقت، شعائر الإسلام ظاهره، وحدوده قائمة، والأمر فيه للشريعة، والقهر فيها لسلطانها، ولم يزل العلماء لهم مكانتهم ومقامهم، هم قادة الناس وساستهم.

وجانب آخر مضيء في هذه الحقبة، أنها رفعت من المستوى الحضاري في المجتمع المسلم، المتمثل في جوانب عديدة، كالعناية بالمرضى بإنشاء المستشفيات والمصحات، ورعاية الضعفة والمسنين، وذوي الاحتياجات الخاصة من المعاقين.

وجانب آخر هو أعظمها بهاء، وأشدها ضياء، وأبهاها سناء، ما لقيته الحركة العلمية من نهضة قلَّ نظيرها، ووثبات قلَّ مثيلها، ولِمَا لها من تميز واضح، أُفْرِدها بالحديث في المطلب التالي.


(١) الإمتاع والمؤانسة (١/ ١٨٣).

<<  <   >  >>