للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثالثا: من أهل العلم من أكثر على نحو مفرط، من دعوى النسخ في القرآن الكريم، وقد كان موقف المؤلف واضحا في رد هذا النوع من الإفراط، حيث أورد بعض الآيات التي قيل بنسخها، ثم وَجَّهَهَا بما يدفع دعوى النسخ عنها، وبما يَنُمّ عن الفهم المَكِين، وحسن تنزيل الآيات مواقعها، من ذلك:

رد دعوى نسخ إعطاء المؤلفة قلوبهم الوارد ذكرهم في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (١) حيث بين أن هذا الحكم وغيره مما هو في معناه يُنَزّلُ على قيام الدواعي والأسباب الباعثة عليه، قال: " وقد قال بعض الناس: إن التأليف قد انقطع، واحتج بأن عمر - رضي الله عنه - قطع عن المؤلفة الذين كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما قطع عنهم لما استغنى عنهم، وحكم التألف ثابت إذا احتيج إليه لرؤساء يُتَألفون، فيَدْخُل في الإسلام بدخولهم أتباعهم، فهذا جائز غير منسوخ، باق في حكم الآية عند الحاجة إلى ذلك" (٢).

وفي موضع آخر رد دعوى النسخ وأجاب عنها بتنزيل الآيات التي ادعي وقوع النسخ فيها، على اختلاف الحال، وذلك ردا على من قال بنسخ جواز أخذ الفداء من أسرى المشركين الوارد في قوله عز وجل: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (٣) قال: " كان ابن عمر والحسن وعطاء، يكرهون قتل أهل الشرك إذا أسروا صبرا، ويتلون: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وقال قتادة: نسختها قوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمَا مَنْ خَلْفَهُمْ} ووافق القول الأول جماعة من المفسرين، ووافق القول الآخر جماعة، ... والذي يبين هذه الآية وقول من قال: منسوخة، ومن قال: ناسخة، قوله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} (٤) وقال تبارك اسمه: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} فدل القرآن بالآيات كلها: لا تأسروهم ولا تفادوهم، حتى تثخنوهم بالسيف، فالأسر والفداء قبل الإثخان لا ينبغي أن يفعل، فإذا وقع الإثخان جاز ذلك، والشيء إذا كان محظورا في وقت ثم أذن فيه في وقت آخر، فإنما يدل على الإذن في الذي كان محظورا، لا على أنه واجب أن يفعل" (٥).

· حكم نسخ القرآن بالسنة.

من المسائل التي وقع فيها الخلاف واشتهر، نسخ القرآن بالسنة، فمن أهل العلم من منعه مطلقا، ومنهم من أجازه مطلقا، ومنهم من فرق بين المتواتر من السنة وغير المتواتر، فأجازه في الأول ومنعه في الثاني، ويبدو أن المؤلف كان من أصحاب القول الأول المانعين على الإطلاق بلا تفصيل، دل على هذا قوله: " ومن شأن السنة أن تنسخ السنة، والسنة لا تنسخ القرآن، وإنما ينسخ القرآن القرآن، والسنة فقد تشرح خفي القرآن ولا تنسخه، فلو كان جلد الثيب بالقرآن؛ لما جاز نسخه إلا بالقرآن، فنسخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما سن من جلد الثيب بسنته، لما رواه أبو هريرة وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: رجم ماعزا ولم يجلده، وروى أبو هريرة وزيد بن خالد ـ وزاد ابن عيينة: وشبل بن معبد ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في قصة العسيف: ? واغد يا أُنَيْس على امرأة


(١) سورة التوبة (٦٠).
(٢) ينظر من هذه الرسالة: سورة التوبة الآية رقم (٦٠).
ينظر كذلك: سورة التوبة الآية رقم (٣٦) والتغابن الآية رقم (١٦).
(٣) سورة محمد (٤)
(٤) سورة الأنفال (٦٧).
(٥) ينظر من هذه الرسالة: سورة محمد الآية رقم (٤)

<<  <   >  >>