ثم فرَضَها في الصلاة فلا تجوز الصلاة إلا بها، وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداج"، والخِداج عند أهل اللسان: الناقص، فقد يحتمل أن يكون نقصًا يبطل الصلاة، ويحتمل ألا يُبْطِلَها، فأتى البيان عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-، إذ كانت قراءتها من فرائض الصلاة بأن قال:"من لم يقرأها فلا صلاة له"، فجاء البيان شافيًا.
وذلك خِطاب للمنفرد، فأما المأموم فغير مخاطب بذلك، بل خاطبه اللَّه تعالى بالاستماع لقراءة الإمام والإنصات له، وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وإذا قرأ الإمام فأنصتوا"، وأمَرَهم -صلى اللَّه عليه وسلم- بما ينوب عن قراءتهم فقال:"قولوا آمين، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفِر له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِه"، فجعلهم بالتأمين مشاركين للإمام في قراءته ودعائه، ألا ترى اللَّه عز وجل قال:{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}، قال اللَّه تعالى:{قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا}[يونس: ٨٨ - ٨٩]، وإنما دعا موسى وأمَّن هارون فصارا داعِيَيْن، فلما أُمرنا بالإنصات عُوِّضْنا التأمينَ رحمة من اللَّه لنا، ألا ترى أبا هريرة -رضي اللَّه عنه- يقول:"فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-".
فأما قول أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: "اقرأ بها في نفسك يا فارسي"، فإنما أمره بها في الصلاة التي يُخافَت فيها.
والقراءة في النَّفْس عَرْضٌ على القلب، ليُشْغِل النَّفْسَ عن الوسوسة بعرضه القرآنَ عليها من غير أن ينطق به اللسان.
فإن احتج محتج أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} من أم الكتاب لأنها مثْبَتة في المصحف، قيل له: فقل: إنها من كل سورة، ولم يَقُله أحد تَقَدَّم، فإن حَمَل نفسَه على قوله فقال: آية من كل سورة لأنه مُثْبَت في أوائل السور.
قيل له: القرآن ليس يؤخذ بالروايات، ولو أخذ بالروايات لأدخل أهلُ الزَّيغْ فيه شيئًا كثيرًا، وإنما يؤخذ بالإجماع وأخذِ الكافّة عن الكافّة، فما أجمعوا عليه مما بين الدَّفَّتَين أنه قرآن فهو قرآن، وما اختلفوا فيه فليس من القرآن، إذ تَضَمَّن اللَّه عز وجل لنا حِفْظَ القرآن علينا، فقال تبارك وتعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: ٩]، فهو ما حَفِظَ اللَّهُ بالكافَّة علينا دون ما اختُلف فيه، فقد نجد بين الدفتين ما ليس من القرآن من قولهم: سورة كذا كذا وكذا آية.
وإنما كان نزَّل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ليفصل به بين السّوَر، فخرج هذا مع تسمية السُّوَر عن أن يكون قرآنًا، إذ لا إجماعَ عليه فيكون مما حفظه اللَّه علينا.
واحتجاجُهم بأنها في الصحف عليهم، لأن كُتّاب المصاحف كُلَّهم قد ذكروا العدد فأخرجوها من كل سورة، والقراء كُلُّهم عَدّوا في التلاوة فأخرجوها من العدد، والحجة في ذلك تطول وقصدُنا الاختصار.