فالرسول عليه الصلاة والسلام غسل وجهه، وبعد غسل الوجه غسل اليدين، وبعد غسل اليدين مسح الرأس، وبعد مسح الرأس غسل الرِّجلين، وقال: توضأوا هكذا، أي توضَّأوا بهذه الكيفية، فلو مسح أحدنا وجهه فإنه يخالف الكيفية، ولو غسل أحدنا رأسه لخالف الكيفية، ولو غسل الرِّجلين قبل الوجه لخالف الكيفية ولما صح وضوؤه. ثم إن حديث عمرو بن عبسة يقول في موضعين (كما أمره الله) هكذا «ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله ... ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله عزَّ وجلَّ ... » فهذا النص وإن كان صريحاً في كيفية الأفعال بذاتها دون ترتيبها، فإنه يفيد أيضاً ترتيب هذه الأفعال، لأن غسلها ومسحها إنما كان بأمرٍ من الله، وأن الله سبحانه الذي أمر بهذه الأفعال بكيفيتها هذه قد رتب هذه الأفعال نفسها في الآية الكريمة، فهو قد أمر بأفعال أربعة وأوجبها، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بفعلها، ولم يكتف منه بفعلها دون أن يأمره بفعلها على كيفية معنية، وجاء فعله عليه الصلاة والسلام لتحقيق أمر الله سبحانه، فرتَّبها كترتيب الآية في كل مرة توضأ فيها، ولم تتخلف هذه الكيفية، مما يدل على التزامه بها وإيجابه إياها.
فمثلاً كان - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ لكل صلاة، ثم روى بريدة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: لقد صنعتَ اليوم شيئاً لم تكن تصنعه، قال: عمداً صنعتُه يا عمر» رواه مسلم. وقد دل الحديث على أنه عليه الصلاة والسلام أراد أن لا يُوهم المسلمين بأن الوضوء يجب لكل صلاة لكونه يتوضأ لكل صلاة، فحتى يزيل الإشكال وينفي الوجوب تخلف عن عادته في التزام الوضوء لكل صلاة في فتح مكة، وهذا مثل ذاك، فالرسول عليه الصلاة والسلام التزم بترتيب أفعال الوضوء في كل مرة حتى قُبض، فدلَّ ذلك على أنه واجب. فإذا قيل بل ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه توضأ خلاف هذا الترتيب كما يلي: