للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

والجوابُ الثَّالثُ: أنَّ كلَّ واحدٍ منهما لفائدةٍ أُخرى؛ فإنَّ الأوَّلَ كان حين كان النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصلِّي في مسجدِ المدينة (١) إلى بيت المقدس، فوردَ النَّسخُ، وأُمِرَ بالتوجُّه إلى الكعبةِ، فقيل له: ولِّ وجهَك شطرَ المسجدِ الحرامِ إذا صلَّيتَ في مسجدِك، وكان هذا أمرًا (٢) له على الخصوص، ثمَّ عَمَّ الأمرَ، فقال لعامَّة المؤمنين: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ}؛ أي: في سائرِ المساجد ومواضعِ الصَّلواتِ مِن البيوتِ وغيرِها، {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، وهذا للمقيمين بالمدينة، ثمَّ قال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} يا محمَّدُ في الأسفارِ، فبيَّن أَنَّه في الأسفار مثلُه في الأمصار، ثمَّ قال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} مِن سائر البلاد، ثمَّ عمَّ المؤمنين فقال: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} بعدَ ما خصَّ به النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-.

والجوابُ الرَّابع: أنَّ الأوَّلَ مع الثَّاني، وهو أمرُ النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- على الخصوص، وأمرُ المؤمنين على العموم: كان لابتداءِ التوجيهِ إليها، والثَّالثَ أمرٌ للنبيِّ عليه السلام بالدَّوام عليه في كلِّ الأمكنة، والرَّابعَ والخامسَ أمرٌ للنَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلامُ على الخصوص، وللمؤمنين على العموم، على الدَّوامِ على ذلك في كلِّ الأزمنة.

والجواب الخامس: أنَّ كلَّ أمرٍ ذُكِرَ ليُقرَنَ به أمرٌ آخر، وذاك من باب البلاغة، كقولك: زيدٌ عالمٌ، زيدٌ جميلُ المعاشرةِ، زيدٌ أهلٌ للمودَّة، فكأنَّه قال: الزم هذه القبلةَ؛ فإنَّ اللَّهَ شرَّفك إجابةَ دعوتك فيها، الزم هذه القبلةَ؛ فإنَّها قبلةُ حقٍّ لا قبلة هوى، وهو قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}، لزم هذه القبلةَ؛ فإنَّ في لزومِك إيَّاها انقطاعَ حُجَج المخالفين، وهو قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}؛ أي: دوموا على استقبالِ هذه القبلة حيثُ كنتُم؛ فإنَّكم إذا فعلتُم ذلك، لم يكن للنَّاس عليكم حجَّةٌ؛ أي: موضعُ احتجاج.


(١) في (أ): "مسجده بالمدينة" بدل من "مسجد المدينة".
(٢) في (ف): "الأمر".