للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} أي: إلَّا أنْ يَحْتَجَّ عليكم ظالم بما ليس بحجَّةٍ، وكشفَ هذا الكلامُ أنَّ اليهودَ -لعنهم اللَّه- قالوا أوَّلًا: يُخالفُنا في دِيننا، ويتَّبعُ قبلتَنا (١)، وقالوا: ما دَرى محمَّدٌ أين يتوجَّه بصلاته (٢) حتَّى هديناه، وبعد صرفِ القبلةِ قالوا: اشتاقَ الرَّجلُ إلى مولِده وبلدِ آبائه، وقالوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}.

وقال المشركون -لعنهم اللَّه-: رجعَ محمَّدٌ إلى قبلتِنا، وسيَرجِعُ إلى دينِنا.

فأبطلَ اللَّه تعالى قولَ اليهود في دعوتهم: إنَّا هديناهُ إلى القبلةِ، حيث صرفَهُ إلى قبلةِ أبيهِ إبراهيمَ، وأعلمَهم أنَّه هو الذي هدَاه لها دونَهم، وردَّ قولهم: {مَا وَلَّاهُمْ} بقوله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛ أي: الأماكنُ كلُّها للَّه تعالى، لا حرمةَ لها لأعيانِها، وللَّه جلَّ جلالهُ أنْ يأمرَ عبادَهُ باستقبالِ ما شاءَ منها وهو أعلمُ بمصالحِ عبادِه (٣)، فلم يبق لليهود خصومةٌ ولا شبهة؛ لأنَّهم إن قالوا: يُصلِّي إلى قبلتِنا في هذه الحالة، كابروا، فإن قالوا: إنَّ المشرقَ والمغربَ ليسا (٤) للَّه، كَذبوا، فإن قالوا: للأمكنةِ بنفسِها (٥) حرمةٌ مِن غير أنْ يجعلَها اللَّهُ تعالى، أحالوا.

وقولُهم: اشتاقَ الرَّجلُ إلى بلدِه، تحكُّمٌ منهم باطلٌ، بل انقادَ لأمرِ اللَّهِ تعالى، وسلَّم لحكم اللَّه، وهذا منهم دعوى لا بُرهان عليها، وهو ظلمٌ، والمحتجُّ بمثلِه ظالمٌ.


(١) في (أ): "ملتنا".
(٢) في (ر) و (ف): "لصلاته".
(٣) قوله: "باستقبال ما شاء منها وهو أعلم بمصالح عباده" ليس في (ف)، ووقع بدله في (ر): "بالتوجه إلى أي جهة شاء".
(٤) في (أ): "ليستا".
(٥) في (أ): "بأنفسها".