وخرج أهل مكة، ونزلوا حيث قلنا في حديث سُؤال النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- السُّقَّاءَ، ثم قال لأصحابه:"أشيروا عليَّ في المنزل"، فقال الحُباب بن المنذر: يا رسول اللَّه، أرأيتَ هذا المنزل، أمنزلٌ أنزلكه اللَّه ليس لنا أن نتقدَّمه أو نتأخَّر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؛ فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بل هو الرأيُ والمكيدة والحرب"، قال: فإن هذا ليس بمنزلٍ، انطلق بنا إلى أدنى ماءٍ إلى القوم فإني عالمُ بها وبقُلُبها، بها قَليبٌ قد عرفتُ عذوبةَ مائه، وماؤه كثيرٌ لا يُنزَح، ثم نبني عليه حوضًا ونقذفُ فيه الآنية، فنشرب ونقاتل ونغوِّر ما سواه من القُلُب، فنزل جبريل عليه السلام على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقال: الرأي ما أشار به الحباب، فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الرأيُ ما أشرتَ إليه" ونهض -صلى اللَّه عليه وسلم- وفعل ذلك.
ولمَّا تحول إلى المنزل أرسل عمار بن ياسر وابن مسعود فأطافا بالقوم، ثم رجعَا إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالا: القوم مذعورون فَزِعون، إن الفرس ليريدُ أن يَصْهَل فيُضربُ وجهه، مع أن السماء تَسُحُّ عليهم، فلما أصبحوا قال منبِّه بن الحجَّاج وكان رجلًا يبصر الأثر: هذا أثرُ ابن سمية وأثر ابن أمِّ عبدٍ أعرفهما، قد جاءنا محمد بسفهائنا وسفهاء أهل يثرب.
وبُني لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عَريشٌ من جَريدٍ، فقام سعد بن معاذ على باب العريش متوشِّحًا بالسيف، فدخل النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- العريشَ هو وأبو بكرٍ، ونزل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالعدوة الشامية ونزلوا بالعدوة اليمانيَة، ثم دعا رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ربَّه، فنزل جبريل عليه السلام [بهذه الآية]: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الآية [الأنفال: ٩].
وعدَّل رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الصفوف، فتقدم سوادُ بن غَزِيَّة أمام الصفِّ، فدفع النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في بطن سوادٍ بقدحٍ وقال:"استوِ يا سواد"، فقال: قد (١) أوجعتني، والذي بعثك بالحق نبيًّا أَقِدْني، فكشف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بطنَه ثم قال:"استَقِدْ"، فاعتنَقه وقبَّله، فقال