للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

فيهما مِن العَجائب، وتدبَّرَ خَلْقَ نفْسِه وخَلْقَ غيرِه في تعاقُبِ الأحوال (١) المُتضادَّة عليه مِن حين ابتدائِه في بطن أُمِّه إلى انفصالِه منه إلى بلوغه ما بلَغَه (٢)، وتدبَّرَ ما بثَّ في الأرض (٣) مِن أصنافِ الدَّوابِّ في كل الأوقات على اختلافها في هَيْئاتها وتركيباتها، وما في كلِّ واحدٍ منها مِن المضارِّ والمنافع، وتدبَّرَ اختلافَ الليلِ والنهارِ، وتناوُبَهما على المقادير المُتَّفقة في الأزمنة، وما اقترن بهما مِن مصالح المعاش وأسباب الحياة بهما، وتدبَّرَ ما أنزلَ اللَّهُ مِن السماء مِن المطر الذي جعلَه سببًا لأرزاقِ العِباد، فأحيا به الأرضَ بعد موتها بأنْ أخرَجَ منها أصنافَ النَّباتِ بعد أنْ كانت كالميتةِ الهامِدة لا نباتَ فيها ولا حَراكَ، وتدبَّرَ تصريفَ الرياحِ في الجهات لاقِحًا وعَقيمًا، وما يوجدُ فيها مِن رحمةٍ وعذابٍ، علِمَ بعَقْلِه أنها مَرْبُوبَة مُدَبَّرَةٌ مُسَخَّرَةٌ مُصرَّفة، وأنَّ لها رَبًّا مُدَبِّرًا مُسَخِّرًا مُصرِّفًا لا يُشْبِهُها، مُنَزَّهًا عن صفاتها، وما بها مِن سِمات الحدَثِ وعلاماتِ النَّقْصِ والذُّلِّ والفَقْرِ والحاجةِ إلى مَن يُقِيمُها، واحدًا لا يجوزُ أنْ يكون له شريكٌ في سُلْطانه، أو نَظيرٌ في أوصافِه يُعارِضُه في الرُّبوبِيَّة، أو يُنازِعُه في الألوهيَّة، وأنَّه عزَّ وجلَّ لم يخلُقْ للخَلْقِ أسبابَ معاشِهم مِن الأَقْوات التي أخرَجَها لهم مِن الأرض بالأمطار التي أنزَلَها، والرِّياحِ التي أَهَبَّها، والشمسِ والقمرِ اللَّذَينِ سخَّرَهما للطُّلوع والغُروب، ولم يجعلْ فيما بثَّ في الأرض مِن الدَّوابِّ مُؤْلِمًا ضارًّا أو مُلِذًّا نافعًا إلَّا لِيَسْتَعْمِرَهم في الأرض لِضُروبٍ مِن الحِكْمة التي تفرَّدَ بها، ولِيُمَيِّزوا بين المُلِذِّ والمُؤْلِم، ويتحقَّقوا الوَعْدَ والوَعيدَ، وذلك لا يكونُ إلَّا بالطاعة والمعصية والإحسان والإساءة، على ما حكَمَ به سبحانه


(١) في (أ): "الأفعال".
(٢) في (ر): "مبلغه" بدل: "ما بلغه".
(٣) في (ر): "خلق اللَّه" بدل: "بث في الأرض".