للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هو نهاية البلاغة فى الكلام؛ والاختصار الدال مع اللفظ القليل على المعانى الكثيرة؛ لأنه استغنى بقوله تعالى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ عن بسط الكلام الّذي ذكرناه؛ ولذلك نظائر فى القرآن، قال الله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ؛ [المؤمنون: ٩١]، فلولا الاختصار لكان مع شرح الكلام يقول: ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله، ولو كان معه إله إذا لذهب كل إله بما خلق؛ ومثله قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ؛ [آل عمران: ١٠٦]، أى: فيقال للذين اسودت وجوههم:

أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؛ وأمثاله أكثر من أن تورد.

ثم قال تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وليس يجوز أن يرجع الضمير على هذا الجواب إلى الملكين؛ وكيف يرجع إليهما وقد نفى عنهما التعليم! بل يرجع إلى الكفر والسحر، وقد تقدم ذكر السحر، وتقدم أيضا ذكر ما يدلّ على الكفر ويقتضيه فى قوله: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا؛ فدل كَفَرُوا على الكفر، والعطف عليه مع السحر جائز، وإن كان التصريح قد وقع بذكر السحر دونه؛ ومثل ذلك قوله تعالى:

سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى. وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى؛ [الأعلى: ١٠ - ١١، أى يتجنّب الذكرى الأشقى، ولم يتقدم تصريح بالذّكرى، لكن دلّ عليها قوله: سَيَذَّكَّرُ.

ويجوز أيضا أن يكون معنى فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما، أى بدلا مما علّمهم الملكان، ويكون المعنى أنهم يعدلون عمّا علّمهم ووقفهم عليه الملكان من النهى عن السحر إلى تعلمه واستعماله؛ كما يقول القائل: ليت لنا من كذا وكذا كذا (١)! أى بدلا منه، وكما قال الشاعر:


(١) حواشى الأصل، ت، ف: «من هذا الباب قوله:
فليت لنا من ماء زمزم شربة ... مبرّدة باتت على الطّهيان
- الطهيان: اسم جبل».