أَنْ يَرَى أَنَّ الْوِتْرَ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى شَفْعٍ وَوَتْرٍ، فَإِنَّهُ إِذَا زِيدَ عَلَى الشَّفْعِ وَتْرٌ صَارَ الْكُلُّ وَتْرًا، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَذْهَبِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْمُتَقَدِّمُ، فَإِنَّهُ سُمِّيَ الْوِتْرُ فِيهِ الْعَدَدَ الْمُرَكَّبَ مَنْ شَفْعٍ وَوَتْرٍ، وَيَشْهَدُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْوِتْرَ هُوَ الرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَيْفَ يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ لَيْسَ قَبْلَهَا شَيْءٌ، وَأَيُّ شَيْءٍ يُوتَرُ لَهُ؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى» . فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ الْوِتْرَ الشَّرْعِيَّ هُوَ عَدَدُ الْوِتْر بِنَفْسِهِ - أَعْنِي: الغَيْر مَرْكَب مِنَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ - ذَلِكَ أَنَّ هَذَا هُوَ وِتْرٌ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ عَلَيْهِ أَوْلَى.
وَالْحَقُّ فِي هَذَا: أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ فِي صِفَةِ الْوِتْرِ مِنَ الْوَاحِدَةِ إِلَى التِّسْعِ عَلَى مَا رُوِيَ ذَلِكَ في فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالنَّظَرُ إِنَّمَا هُوَ فِي: هَلْ مِنْ شَرْطِ الْوِتْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ شَفْعٌ مُنْفَصِلٌ أَمْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِهِ؟ فَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: ذَلِكَ مِنْ شَرْطِهِ، لِأَنَّهُ هَكَذَا كَانَ وِتْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِهِ لِأَنَّ مُسْلِمًا قَدْ خَرَّجَ: " أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كَانَ إِذَا انْتَهَى إِلَى الْوِتْرِ أَيْقَظَ عَائِشَةَ فَأَوْتَرَتْ» . وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا كَانَتْ تُوتِرُ دُونَ أَنْ تُقَدِّمَ عَلَى وِتْرِهَا شَفْعًا.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ خَرَّجَ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوتِرُ بِتِسْعِ رَكَعَاتٍ يَجْلِسُ فِي الثَّامِنَةِ وَالتَّاسِعَةِ، وَلَا يُسَلِّمُ إِلَّا فِي التَّاسِعَةِ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ، فَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَلَمَّا أَسَنَّ وَأَخَذَ اللَّحْمُ أَوْتَرَ بِسَبْعِ رَكَعَاتٍ وَلَمْ يَجْلِسْ إِلَّا فِي السَّادِسَةِ وَالسَّابِعَةِ، وَلَمْ يُسَلِّمْ إِلَّا فِي السَّابِعَةِ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ، فَتِلْكَ تِسْعُ رَكَعَاتٍ» . وَهَذَا الْحَدِيثُ: الْوِتْرُ فِيهِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الشَّفْعِ، فَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوِتْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ شَفْعٌ، وَأَنَّ الْوِتْرَ يَنْطَلِقُ عَلَى الثَّلَاثِ، وَمِنَ الْحُجَّةِ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوتِرُ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» . وَعَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ، وَقَالَتْ «فِي الثَّالِثَةِ: بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ» .
وَأَمَّا وَقْتُهُ: فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ وَقْتَهُ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، لِوُرُودِ ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَمِنْ أَثْبَتِ مَا فِي ذَلِكَ: مَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute