أَنَّهُ إِنْ تَزَوَّجَ عِنْدَهُ رَجُلٌ بِالْمَغْرِبِ الْأَقْصَى امْرَأَةً بِالْمَشْرِقِ الْأَقْصَى، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِرَأْسِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِلِعَانٍ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ظَاهِرِيٌّ مَحْضٌ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا اعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عُمُومَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ - الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» ، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ قَدْ صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ بِالْعَقْدِ، فَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ، وَهَذَا شَيْءٌ ضَعِيفٌ.
وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي فَرْعٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى أَنَّهَا زَنَتْ وَاعْتَرَفَ بِالْحَمْلِ، فَعَنْهُ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إِحْدَاهَا أَنَّهُ يُحَدُّ، وَيَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ، وَلَا يُلَاعِنُ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يُلَاعِنُ وَيَنْفِي الْوَلَدَ. وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ وَيُلَاعِنُ لِيَدْرَأَ الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلْ يَلْتَفِتُ إِلَى إِثْبَاتِهِ مَعَ مُوجِبِ نَفْيِهِ وَهُوَ دَعْوَاهُ الزِّنَا؟
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي فَرْعٍ وَهُوَ: إِذَا أَقَامَ الشُّهُودَ عَلَى الزِّنَا هَلْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَدَاوُدُ: لَا يُلَاعِنُ، لِأَنَّ اللِّعَانَ إِنَّمَا جُعِلَ عِوَضَ الشُّهُودِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: ٦] " الْآيَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: يُلَاعِنُ، لِأَنَّ الشُّهُودَ لَا تَأْثِيرَ لَهُمْ فِي دَفْعِ الْفِرَاشِ.
[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي صِفَاتِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ]
ِ. وَأَمَّا صِفَةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: يَجُوزُ اللِّعَانُ بَيْنَ كُلِّ زَوْجَيْنِ حُرَّيْنِ كَانَا، أَوْ عَبْدَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا حُرٌّ وَالْآخَرُ عَبْدٌ، مَحْدُودَيْنِ كَانَا، أَوْ عَدْلَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، مُسْلِمَيْنِ كَانَا، أَوْ كَانَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا، وَالزَّوْجَةُ كِتَابِيَّةً، وَلَا لِعَانَ بَيْنَ كَافِرَيْنِ إِلَّا أَنْ يَتَرَافَعَا إِلَيْنَا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ ; وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا لِعَانَ إِلَّا بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ حُرَّيْنِ عَدْلَيْنِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَاللِّعَانُ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ.
وَحُجَّةُ أَصْحَابِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: ٦] ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي ذَلِكَ شَرْطًا. وَمُعْتَمَدُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ، إِذْ قَدْ سَمَّاهُمُ اللَّهُ شُهَدَاءَ لِقَوْلِهِ: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: ٦] وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ لِعَانٌ إِلَّا بَيْنَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْقَذْفِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمَا.
وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُحَدُّ بِقَذْفِهِ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ، فَشَبَّهُوا مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ اللِّعَانُ بِمَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute