وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ تَوْبَتَهُ إِنَّمَا تَكُونُ بِأَنْ يَتْرُكَ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَيَجْلِسَ فِي مَوْضِعِهِ، وَيَظْهَرَ لِجِيرَانِهِ. وَإِنْ أَتَى الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ تَوْبَتَهُ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْمَجِيءِ إِلَى الْإِمَامِ، وَإِنْ تَرَكَ مَا هُوَ عَلَيْهِ لَمْ يُسْقِطْ ذَلِكَ عَنْهُ حُكْمًا مِنَ الْأَحْكَامِ إِنْ أُخِذَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْإِمَامُ. وَتَحْصِيلُ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ تَوْبَتَهُ قِيلَ: إِنَّهَا تَكُونُ بِأَنْ يَأْتِيَ الْإِمَامَ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ إِذَا ظَهَرَتْ تَوْبَتُهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ فَقَطْ، وَقِيلَ: تَكُونُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا.
وَأَمَّا صِفَةُ الْمُحَارِبِ الَّذِي تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهَا أَيْضًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ لَهُ فِئَةٌ.
وَالثَّالِثُ: كَيْفَمَا كَانَتْ، لَهُ فِئَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ، لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ لَمْ يَلْحَقْ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْمُحَارِبِ إِذَا امْتَنَعَ، فَأَمَّنَهُ الْإِمَامُ عَلَى أَنْ يَنْزِلَ - فَقِيلَ: لَهُ الْأَمَانُ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ حَدُّ الْحِرَابَةِ. وَقِيلَ: لَا أَمَانَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُؤَمَّنُ الْمُشْرِكُ.
وَأَمَّا مَا تُسْقِطُ عَنْهُ التَّوْبَةُ، فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تُسْقِطُ عَنْهُ حَدَّ الْحِرَابَةِ فَقَطْ، وَيُؤْخَذُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ عَنْهُ حَدَّ الْحِرَابَةِ وَجَمِيعَ حُقُوقِ اللَّهِ مِنَ الزِّنَى وَالشَّرَابِ وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَيُتَّبَعُ بِحُقُوقِ النَّاسِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ التَّوْبَةَ تَرْفَعُ جَمِيعَ حُقُوقِ اللَّهِ، وَيُؤْخَذُ بِالدِّمَاءِ، وَفِي الْأَمْوَالِ بِمَا وُجِدَ بِعَيْنِهِ فِي أَيْدِيهِمْ وَلَا تُتَّبَعُ ذِمَمُهُمْ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ جَمِيعَ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مِنْ مَالٍ وَدَمٍ إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الْأَمْوَالِ قَائِمَ الْعَيْنِ بِيَدِهِ.
[الْبَابُ الْخَامِسُ بِمَاذَا تَثْبُتُ الحرابة]
الْبَابُ الْخَامِسُ: بِمَاذَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْجِنَايَةُ وَأَمَّا بِمَاذَا يَثْبُتُ هَذَا الْحَدُّ فَبِالْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ، وَمَالِكٌ يَقْبَلُ شَهَادَةَ الْمَسْلُوبِينَ عَلَى الَّذِينَ سَلَبُوهُمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الرُّفْقَةِ عَلَيْهِمْ إِذَا لَمْ يَدَّعُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا لِرُفَقَائِهِمْ مَالًا أَخَذُوهُ، وَتَثْبُتُ عِنْدَ مَالِكٍ الْحِرَابَةُ بِشَهَادَةِ السَّمَاعِ.
فَصْلٌ: فِي حُكْمِ الْمُحَارِبِينَ عَلَى التَّأْوِيلِ
وَأَمَّا حُكْمُ الْمُحَارِبِينَ عَلَى التَّأْوِيلِ فَإِنَّ مُحَارِبَهُمُ الْإِمَامُ، فَإِذَا قُدِرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يُقْتَلْ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً، فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: إِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ إِنْ رَأَى ذَلِكَ؛ لِمَا يُخَافُ مِنْ عَوْنِهِ لِأَصْحَابِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا إِذَا أُسِرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْبِدْعِيِّ الَّذِي لَا يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ فَهُوَ