وَالْجُمْهُورُ إِنَّمَا عَلَّلُوا دَرْءَ الْحَدِّ عَنِ الْأَبِ لِمَكَانِ حَقِّهِ عَلَى الِابْنِ، وَالَّذِي يَجِيءُ عَلَى أُصُولِ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَادَ، فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ فِي الْمُوجِبِ.
[الْقِسْمُ الثَّانِي النَّظَرُ فِي الْوَاجِبِ فِي الْقِصَاصِ]
وَأَمَّا الْقَوْلُ فِي الْوَاجِبِ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِوَلِيِّ الدَّمِ أَحَدَ شَيْئَيْنِ: الْقِصَاصُ، أَوِ الْعَفْوُ إِمَّا عَلَى الدِّيَةِ وَإِمَّا عَلَى غَيْرِ الدِّيَةِ.
وَاخْتَلَفُوا هَلِ الِانْتِقَالُ مِنَ الْقِصَاصِ إِلَى الْعَفْوِ عَلَى أَخْذِ الدِّيَةِ هُوَ حَقٌّ وَاجِبٌ لِوَلِيِّ الدَّمِ دُونَ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ خِيَارٌ لِلْمُقْتَصِّ مِنْهُ، أَمْ لَا تَثْبُتُ الدِّيَةُ إِلَّا بِتَرَاضِي الْفَرِيقَيْنِ (أَعْنِي: الْوَلِيَّ وَالْقَاتِلَ) ، وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُرِدِ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ أَنْ يُؤَدِّيَ الدِّيَةَ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّ الدَّمِ إِلَّا الْقِصَاصُ مُطْلَقًا أَوِ الْعَفْوُ.
فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجِبُ لِلْوَلِيِّ إِلَّا أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَعْفُوَ عَنْ غَيْرِ دِيَةٍ إِلَّا أَنْ يَرْضَى بِإِعْطَاءِ الدِّيَةِ لِلْقَاتِلِ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَجَمَاعَةٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ: وَلِيُّ الدَّمِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ، رَضِيَ الْقَاتِلُ أَوْ لَمْ يَرْضَ، وَرَوَى ذَلِكَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ، إِلَّا أَنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ هِيَ الرِّوَايَةُ الْأُولَى.
فَعُمْدَةُ مَالِكٍ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ سِنِّ الرُّبَيِّعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» فَعَلِمَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلَّا الْقِصَاصُ.
وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّابِتُ: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ وَبَيْنَ أَنْ يَعْفُوَ» ، هُمَا حَدِيثَانِ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِمَا، الْأَوَّلُ ضَعِيفُ الدَّلَالَةِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلَّا الْقِصَاصُ.
وَالثَّانِي نَصٌّ فِي أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يُمْكِنُ إِذَا رُفِعَ دَلِيلُ الْخِطَابِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ وَاجِبًا وَمُمْكِنًا فَالْمَصِيرُ إِلَى الْحَدِيثِ الثَّانِي وَاجِبٌ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ وَأَنَّهُ أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيحِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: ٢٩] وَإِذَا عُرِضَ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِدَاءُ نَفْسِهِ بِمَالٍ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهَا، أَصْلُهُ إِذَا وَجَدَ الطَّعَامَ فِي مَخْمَصَةٍ بِقِيمَةِ مِثْلِهِ وَعِنْدَهُ مَا يَشْتَرِيهِ (أَعْنِي: أَنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ بِشِرَائِهِ) ، فَكَيْفَ بِشِرَاءِ نَفْسِهِ؟ وَيَلْزَمُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِذَا كَانَ لِلْمَقْتُولِ أَوْلِيَاءُ صِغَارٌ وَكِبَارٌ أَنْ يُؤَخِّرَ الْقَتْلَ إِلَى أَنْ يَكْبَرَ الصِّغَارُ فَيَكُونَ لَهُمُ الْخِيَارُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الصِّغَارُ يَحْجُبُونَ الْكِبَارَ مِثْلَ الْبَنِينَ مَعَ الْإِخْوَةِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ كَانَتْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِقُرْطُبَةَ حَيَاةَ جَدِّي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَأَفْتَى أَهْلُ