للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاخْتَلَفُوا فِي حَلِّ عِصْمَةِ النِّكَاحِ أَوْ عَقْدِهِ بِالظَّاهِرِ الَّذِي يَظُنُّ الْحَاكِمُ أَنَّهُ حَقٌّ وَلَيْسَ بِحَقٍّ؛ إِذْ لَا يَحِلُّ حَرَامٌ، وَلَا يَحْرُمُ حَلَالٌ بِظَاهِرِ حُكْمِ الْحَاكِمِ دُونَ أَنْ يَكُونَ الْبَاطِنُ كَذَلِكَ هَلْ يَحِلُّ ذَلِكَ؟ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْأَمْوَالُ وَالْفُرُوجُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، لَا يُحِلُّ حُكْمُ الْحَاكِمِ مِنْهَا حَرَامًا وَلَا يُحَرِّمُ حَلَالًا. وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدُ زُورٍ فِي امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ أَنَّهَا زَوْجَةٌ لِرَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ لَيْسَتْ لَهُ بِزَوْجَةٍ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا تَحِلُّ لَهُ، وَإِنْ أَحَلَّهَا الْحَاكِمُ بِظَاهِرِ الْحُكْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ: تَحِلُّ لَهُ.

فَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ عُمُومُ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَشُبْهَةُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْحُكْمَ بِاللِّعَانِ ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ أَحَدَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ كَاذِبٌ، وَاللِّعَانُ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ، وَيُحَرِّمُ الْمَرْأَةَ عَلَى زَوْجِهَا الْمُلَاعِنِ لَهَا وَيُحِلُّهَا لِغَيْرِهِ. فَإِنْ كَانَ هُوَ الْكَاذِبَ فَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ إِلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ هِيَ الْكَاذِبَةَ؛ لِأَنَّ زِنَاهَا لَا يُوجِبُ فُرْقَتَهَا عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَالْجُمْهُورُ أَنَّ الْفُرْقَةَ هَاهُنَا إِنَّمَا وَقَعَتْ عُقُوبَةً لِلْعِلْمِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ.

[الْبَابُ الثَّالِثُ فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْقَضَاءُ]

[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الشَّهَادَةِ]

الْبَابُ الثَّالِثُ: فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْقَضَاءُ وَالْقَضَاءُ يَكُونُ بِأَرْبَعٍ: بِالشَّهَادَةِ، وَبِالْيَمِينِ، وَبِالنُّكُولِ، وَبِالْإِقْرَارِ، أَوْ بِمَا تَرَكَّبَ مِنْ هَذِهِ. فَفِي هَذَا الْبَابِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي الشَّهَادَةِ وَالنَّظَرُ فِي الشُّهُودِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: فِي الصِّفَةِ، وَالْجِنْسِ، وَالْعَدَدِ. فَأَمَّا عَدَدُ الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي قَبُولِ الشَّاهِدِ بِالْجُمْلَةِ فَهِيَ خَمْسَةٌ: الْعَدَالَةُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَنَفْيُ التُّهْمَةِ. وَهَذِهِ مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَمِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا.

أَمَّا الْعَدَالَةُ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى اشْتِرَاطِهَا فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: ٢٨٢] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: ٢] . وَاخْتَلَفُوا فِيمَا هِيَ الْعَدَالَةُ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هِيَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ، هُوَ أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا لِوَاجِبَاتِ الشَّرْعِ وَمُسْتَحِبَّاتِهِ، مُجْتَنِبًا لِلْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكْفِي فِي الْعَدَالَةِ ظَاهِرُ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ لَا تُعْلَمَ مِنْهُ جَرْحَةٌ.

وَسَبَبُ الْخِلَافِ كَمَا قُلْنَا تَرَدُّدُهُمْ فِي مَفْهُومِ اسْمِ الْعَدَالَةِ الْمُقَابِلَةِ لِلْفِسْقِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْفَاسِقِ لَا تُقْبَلُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: ٦] الْآيَةَ.

وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْفَاسِقَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إِذَا عُرِفَتْ تَوْبَتُهُ، إِلَّا

<<  <  ج: ص:  >  >>