وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ: لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَشْبِيهُ الضَّرَرِ الْوَاقِعِ مِنْ ذَلِكَ بِالضَّرَرِ الْوَاقِعِ مِنَ الْعُنَّةِ، لِأَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّطْلِيقِ عَلَى الْعِنِّينِ، حَتَّى لَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ، وَرُبَّمَا قَالُوا: النَّفَقَةُ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّاشِزَ لَا نَفَقَةَ لَهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدِ النَّفَقَةَ سَقَطَ الِاسْتِمْتَاعُ، فَوَجَبَ الْخِيَارُ.
وَأَمَّا مَنْ لَا يَرَى الْقِيَاسَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ ثَبَتَتِ الْعِصْمَةُ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا تَنْحَلُّ إِلَّا بِإِجْمَاعٍ، أَوْ بِدَلِيلٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ، فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ لِلْقِيَاسِ.
[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي خِيَارِ الْفَقْدِ]
- وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَفْقُودِ الَّذِي تُجْهَلُ حَيَاتُهُ أَوْ مَوْتُهُ فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ: فَقَالَ مَالِكٌ يُضْرَبُ لِامْرَأَتِهِ أَجْلٌ أَرْبَعُ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ تَرْفَعُ أَمْرَهَا إِلَى الْحَاكِمِ، فَإِذَا انْتَهَى الْكَشْفُ عَنْ حَيَاتِهِ أَوْ مَوْتِهِ فَجُهِلَ ذَلِكَ ضَرَبَ لَهَا الْحَاكِمُ الْأَجَلَ، فَإِذَا انْتَهَى اعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَحَلَّتْ، قَالَ: وَأَمَّا مَالُهُ فَلَا يُورَثُ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّمَانِ مَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمَفْقُودَ لَا يَعِيشُ إِلَى مِثْلِهِ غَالِبًا. فَقِيلَ: سَبْعُونَ، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ، وَقِيلَ: تِسْعُونَ، وَقِيلَ: مِائَةٌ فِيمَنْ غَابَ وَهُوَ دُونَ هَذِهِ الْأَسْنَانِ، وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ عُثْمَانَ وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ: لَا تَحِلُّ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ حَتَّى يَصِحَّ مَوْتُهُ، وَقَوْلُهُمْ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ لِلْقِيَاسِ، وَذَلِكَ أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ يُوجِبُ أَنْ لَا تَنْحَلَّ عِصْمَةٌ إِلَّا بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَهُوَ تَشْبِيهُ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ لَهَا مِنْ غَيْبَتِهِ بِالْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ، فَيَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ كَمَا يَكُونُ فِي هَذَيْنِ. وَالْمَفْقُودُونَ عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَرْبَعَةٌ: مَفْقُودٌ فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ، وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ، وَمَفْقُودٌ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ، وَمَفْقُودٌ فِي حُرُوبِ الْإِسْلَامِ - أَعْنِي: فِيمَا بَيْنَهُمْ -، وَمَفْقُودٌ فِي حُرُوبِ الْكُفَّارِ، وَالْخِلَافُ عَنْ مَالِكٍ وَعَنْ أَصْحَابِهِ فِي ثَلَاثَةِ الْأَصْنَافِ مِنَ الْمَفْقُودِينَ كَثِيرٌ:
فَأَمَّا الْمَفْقُودُ فِي بِلَادِ الْحَرْبِ: فَحُكْمُهُ عِنْدَهُمْ حُكْمُ الْأَسِيرِ، لَا تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ وَلَا يُقَسَّمُ مَالُهُ حَتَّى يَصِحَّ مَوْتُهُ، مَا خَلَا أَشْهَبَ، فَإِنَّهُ حَكَمَ لَهُ بِحُكْمِ الْمَفْقُودِ فِي أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا الْمَفْقُودُ فِي حُرُوبِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: إِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَقْتُولِ دُونَ تَلَوُّمٍ. وَقِيلَ: يُتَلَوَّمُ لَهُ بِحَسَبِ بُعْدِ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ الْمَعْرَكَةُ وَقُرْبِهِ، وَأَقْصَى الْأَجَلِ فِي ذَلِكَ سَنَةٌ.
وَأَمَّا الْمَفْقُودُ فِي حُرُوبِ الْكُفَّارِ: فَفِيهِ فِي الْمَذْهَبِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: قِيلَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَسِيرِ، وَقِيلَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَقْتُولِ بَعْدَ تَلَوُّمِ سَنَةٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَوْضِعٍ لَا يَخْفَى أَمْرُهُ، فَيُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِ الْمَفْقُودِ فِي حُرُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَفِتَنِهِمْ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَفْقُودِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute