وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ: هَلْ ظَاهِرُ مَفْهُومِ آيَةِ الْوُضُوءِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ وَالْوُضُوءُ إِلَّا عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: ٦] الْآيَةَ.
فَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ وَالتَّيَمُّمَ عِنْدَ وُجُوبِ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ إِذَا دَخَلَ الْوَقْتُ، فَوَجَبَ لِهَذَا أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ فِي هَذَا حُكْمَ الصَّلَاةِ (أَعْنِي أَنَّهُ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا الْوَقْتُ، كَذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ الْوَقْتُ، إِلَّا أَنَّ الشَّرْعَ خَصَّصَ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ، فَبَقِيَ التَّيَمُّمُ عَلَى أَصْلِهِ أَمْ لَيْسَ يَقْتَضِي هَذَا ظَاهِرُ مَفْهُومِ الْآيَةِ، وَأَنَّ تَقْدِيرَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: ٦] أَيْ إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ مَحْذُوفٌ لَمَا كَانَ يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا إِيجَابُ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ عِنْدَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ فَقَطْ، لَا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إِنْ وَقَعَ قَبْلَ الْوَقْتِ إِلَّا أَنْ يُقَاسَا عَلَى الصَّلَاةِ، فَلِذَلِكَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا إِنَّ سَبَبَ الْخِلَافِ فِيهِ هُوَ قِيَاسُ التَّيَمُّمِ عَلَى الصَّلَاةِ، لَكِنَّ هَذَا يَضْعُفُ، فَإِنَّ قِيَاسَهُ عَلَى الْوُضُوءِ أَشْبَهُ، فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، فَإِنَّهَا ضَعِيفَةٌ (أَعْنِي: مَنْ يَشْتَرِطُ فِي صِحَّتِهِ دُخُولَ الْوَقْتِ وَيَجْعَلُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ) فَإِنَّ التَّوْقِيتَ فِي الْعِبَادَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ، وَإِنَّمَا يَسُوغُ الْقَوْلُ بِهَذَا إِذَا كَانَ عَلَى رَجَاءٍ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، فَيَكُونُ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ مُؤَقَّتَةٌ، لَكِنْ مِنْ بَابِ أَنَّهُ لَيْسَ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْغَيْرِ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ إِلَّا عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهَا أَمْكَنَ أَنْ يَطْرَأَ هُوَ عَلَى الْمَاءِ.
وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ مَتَى يَتَيَمَّمُ؟ هَلْ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَوْ فِي وَسَطِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ؟ لَكِنْ هَاهُنَا مَوَاضِعُ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ بِطَارِئٍ عَلَى الْمَاءِ فِيهَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَلَا الْمَاءُ بِطَارِئٍ عَلَيْهِ.
وَأَيْضًا فَإِنْ قَدَّرْنَا طُرُوءِ الْمَاءِ فَلَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا نَقْضُ التَّيَمُّمِ فَقَطْ لَا مَنْعَ صِحَّتِهِ، وَتَقْدِيرُ الطُّرُوءِ هَذَا مُمْكِنٌ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ، فَلِمَ جُعِلَ حُكْمُهُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ خِلَافَ حُكْمِهِ فِي الْوَقْتِ؟ أَعْنِي أَنَّهُ قَبْلَ الْوَقْتِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ التَّيَمُّمِ، وَبَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَا يَمْنَعُهُ؟
وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ إِلَّا فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَتَأَمَّلْهُ.
[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي صِفَةِ هَذِهِ الطَّهَارَةِ]
ِ وَأَمَّا صِفَةُ هَذِهِ الطَّهَارَةِ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ هِيَ قَوَاعِدُ هَذَا الْبَابِ:
الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الْأَيْدِي الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِمَسْحِهَا فِي التَّيَمُّمِ فِي قَوْلِهِ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: ٦] عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَدَّ الْوَاجِبَ فِي ذَلِكَ هُوَ الْحَدُّ الْوَاجِبُ بِعَيْنِهِ فِي الْوُضُوءِ، وَهُوَ إِلَى الْمَرَافِقِ، وَهُوَ مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute