فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ» . وَهُوَ حَدِيثٌ انْفَرَدَ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ مِنَ الصَّحَابَةِ، إِلَّا أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ، ثُمَّ دَفَعَ مِنْهَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ; فَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلٌ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ الْفَجْرِ. وَإِنْ دَفَعَ مِنْهَا قَبْلَ الْإِمَامِ، وَبَعْدَ الْغَيْبُوبَةِ - أَجْزَأَهُ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَشَرْطُ صِحَّةِ الْوُقُوفِ عِنْدَهُ هُوَ أَنْ يَقِفَ لَيْلًا. وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَحَجُّهُ تَامٌّ وَإِنْ دَفَعَ قَبْلَ الْغُرُوبِ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَيْهِ.
وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ - وَهُوَ حَدِيثٌ مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ - قَالَ: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَمْعٍ، فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ: مَنْ صَلَّى هَذِهِ الصَّلَاةَ مَعَنَا، وَوَقَفَ هَذَا الْمَوْقِفَ حَتَّى نُفِيضَ (أَوْ أَفَاضَ) قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ عَرَفَاتٍ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا - فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ» .
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَهَارًا أَنَّهُ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَمَنِ اشْتَرَطَ اللَّيْلَ احْتَجَّ بِوُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ. لَكِنْ لِلْجُمْهُورِ أَنْ يَقُولُوا أَنَّ وُقُوفَهُ بِعَرَفَةَ إِلَى الْمَغِيبِ قَدْ نَبَّأَ حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ أَنَّهُ عَلَى جِهَةِ الْأَفْضَلِ؛ إِذْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ ذَلِكَ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طُرُقٍ أَنَّهُ قَالَ: «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا بَطْنَ مُحَسِّرٍ، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَفِجَاجُ مَكَّةَ مَنْحَرٌ وَمَبِيتٌ» .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ وَقَفَ مِنْ عَرَفَةَ بِعُرَنَةَ فَقِيلَ: حَجُّهُ تَامٌّ، وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا حَجَّ لَهُ.
وَعُمْدَةُ مَنْ أَبْطَلَ الْحَجَّ النَّهْيُ الْوَارِدُ عَنْ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ، وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يُبْطِلْهُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْوُقُوفَ بِكُلِّ عَرَفَةَ جَائِزٌ إِلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ. قَالُوا: وَلَمْ يَأْتِ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وَجْهٍ تَلْزَمُ بِهِ الْحُجَّةُ وَالْخُرُوجُ عَنِ الْأَصْلِ.
فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ فِي السُّنَنِ الَّتِي فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَمَّا الْفِعْلُ الَّذِي يَلِي الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ فَهُوَ النُّهُوضُ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ بَعْدَ غَيْبَةِ الشَّمْسِ، وَمَا يُفْعَلُ بِهَا، فَلْنَقُلْ فِيهِ.
[الْقَوْلُ فِي أَفْعَالِ الْمُزْدَلِفَةِ]
وَالْقَوْلُ الْجُمْلِيُّ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَنْحَصِرُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ، وَفِي صِفَتِهِ، وَفِي وَقْتِهِ؛ فَأَمَّا كَوْنُ هَذَا الْفِعْلِ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: ١٩٨] .
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ بَاتَ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةَ النَّحْرِ، وَجَمَعَ فِيهَا بَيْنَ