وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ تَجُوزُ وِلَايَةُ الْأَبْعَدِ مَعَ حُضُورِ الْأَقْرَبِ؛ فَإِنْ جَعَلَتِ امْرَأَةٌ أَمْرَهَا إِلَى وَلِيَّيْنِ، فَزَوَّجَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا - فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا فِي الْعَقْدِ عَلَى الْآخَرِ، أَوْ يَكُونَا عَقَدَا مَعًا. ثُمَّ لَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَنْ يُعْلَمَ الْمُتَقَدِّمُ، أَوْ لَا يُعْلَمُ.
فَأَمَّا إِذَا عُلِمَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا لِلْأَوَّلِ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَاخْتَلَفُوا إِذَا دَخَلَ الثَّانِي ; فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ لِلْأَوَّلِ، وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ لِلثَّانِي. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَابْنِ الْقَاسِمِ. وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ. وَأَمَّا إِنْ أَنْكَحَاهَا مَعًا فَلَا خِلَافَ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ فِيمَا أَعْرِفُ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي اعْتِبَارِ الدُّخُولِ أَوْ لَا اعْتِبَارِهِ مُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْقِيَاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَهَا وَلِيَّانِ فَهِيَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا» . فَعُمُومُ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّهَا لِلْأَوَّلِ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أَوْ لَمْ يَدْخُلْ. وَمَنِ اعْتَبَرَ الدُّخُولَ فَتَشْبِيهًا بِفَوَاتِ السِّلْعَةِ فِي الْبَيْعِ الْمَكْرُوهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَأَمَّا إِنْ لَمْ يُعْلَمِ الْأَوَّلُ فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى الْفَسْخِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُفْسَخُ مَا لَمْ يَدْخُلْ أَحَدُهُمَا. وَقَالَ شُرَيْحٌ: تُخَيَّرُ، فَأَيَّهُمَا اخْتَارَتْ كَانَ هُوَ الزَّوْجَ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
[الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ فِي عَضْلِ الْأَوْلِيَاءِ]
ِ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَعْضُلَ وَلِيَّتَهُ إِذَا دَعَتْ إِلَى كُفْءٍ، وَبِصَدَاقِ مِثْلِهَا، وَأَنَّهَا تَرْفَعُ أَمْرَهَا إِلَى السُّلْطَانِ فَيُزَوِّجُهَا، مَا عَدَا الْأَبَ فَإِنَّهُ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَذْهَبُ.
وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ هَذَا الِاتِّفَاقِ فِيمَا هِيَ الْكَفَاءَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي ذَلِكَ، وَهَلْ صَدَاقُ الْمِثْلِ مِنْهَا؟ أَمْ لَا؟
وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْ إِنْكَاحِ مَنْ لَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ جَبْرُهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهَا الْكَفَاءَةُ مَوْجُودَةً كَالْأَبِ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ. أَمَّا غَيْرُ الْبَالِغِ بِاتِّفَاقٍ، وَالْبَالِغُ وَالثَّيِّبُ الصَّغِيرَةُ بِاخْتِلَافٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ فِي مَحْجُورِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ.
فَأَمَّا الْكَفَاءَةُ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الدِّينَ مُعْتَبَرٌ فِي ذَلِكَ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنْ إِسْقَاطِ اعْتِبَارِ الدِّينِ. وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمَذْهَبُ أَنَّ الْبِكْرَ إِذَا زَوَّجَهَا الْأَبُ مِنْ شَارِبِ الْخَمْرِ، وَبِالْجُمْلَةِ مِنْ فَاسِقٍ - أَنَّ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنَ النِّكَاحِ. وَيَنْظُرُ الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ فَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا. وَكَذَلِكَ إِنْ زَوَّجَهَا مِمَّنْ مَالُهُ حَرَامٌ، أَوْ مِمَّنْ هُوَ كَثِيرُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي النَّسَبِ هَلْ هُوَ مِنَ الْكَفَاءَةِ؟ أَمْ لَا؟ وَفِي الْحُرِّيَّةِ، وَفِي الْيَسَارِ، وَفِي الصِّحَّةِ مِنَ الْعُيُوبِ. فَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُ الْمَوَالِي مِنَ الْعَرَبِ، وَأَنَّهُ احْتَجَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: ١٣] ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ: لَا تُزَوَّجُ الْعَرَبِيَّةُ مِنْ مَوْلًى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: لَا تُزَوَّجُ قُرَشِيَّةٌ إِلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ، وَلَا عَرَبِيَّةٌ إِلَّا مِنْ عَرَبِيٍّ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِدِينِهَا، وَجِمَالِهَا، وَمَالِهَا، وَحَسَبِهَا؛ فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَمِينُكَ» .