يَجِبُ لِمَكَانِ هَذَا أَنْ يُظَنَّ بِجَمِيعِ مَنْ ذَكَرْنَاهُ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ يَذْهَبُ هَذَا الْمَذْهَبَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ أُبْصِرَ يُصَلِّي الْوِتْرَ بَعْدَ الْفَجْرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَأَمَّلَ صِفَةَ النَّقْلِ فِي ذَلِكَ عَنْهُمْ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي وَقْتِ الْوِتْرِ عَنِ النَّاسِ خَمْسَةَ أَقْوَالٍ:
مِنْهَا الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْتُهُمَا.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُصَلِّي الْوِتْرَ وَإِنْ صَلَّى الصُّبْحَ، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يُصَلِّيهَا وَإِنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ.
وَالْخَامِسُ: أَن يُوتِر مِنَ اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
وَهَذَا الِاخْتِلَافُ إِنَّمَا سَبَبُهُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي تَأْكِيدِهِ وَقُرْبِهِ مِنْ دَرَجَةِ الْفَرْضِ، فَمَنْ رَآهُ أَقْرَبَ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ فِي زَمَانٍ أَبْعَدَ مِنَ الزَّمَانِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، وَمَنْ رَآهُ أَبْعَدَ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ فِي زَمَانٍ أَقْرَبَ، وَمَنْ رَآهُ سُنَّةً كَسَائِرِ السُّنَنِ ضَعُفَ عِنْدَهُ الْقَضَاءُ، إِذِ الْقَضَاءُ إِنَّمَا يَجِبُ فِي الْوَاجِبَاتِ، وَعَلَى هَذَا يَجِيءُ اخْتِلَافُهُمْ فِي قَضَاءِ صَلَاةِ الْعِيدِ لِمَنْ فَاتَتْهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُفَرِّقَ فِي هَذَا بَيْنَ النَّدَبِ وَالْوَاجِبِ - أَعْنِي: أَنَّ مَنْ رَأَى أَنَّ الْقَضَاءَ فِي الْوَاجِبِ يَكُونُ بِأَمْرٍ مُتَجَدِّدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي النَّدْبِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ يَجِبُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ أَنْ يَعْتَقِدَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي النَّدْبِ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقُنُوتِ فِيهِ: فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّهُ يَقْنُتُ فِيهِ، وَمَنَعَهُ مَالِكٌ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي النِّصْفِ الْآخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَجَازَهُ قَوْمٌ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ رَمَضَانَ، وَقَوْمٌ فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ: اخْتِلَافُ الْآثَارِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُنُوتُ مُطْلَقًا، وَرُوِيَ عَنْهُ الْقُنُوتُ شَهْرًا، وَرُوِيَ عَنْهُ «أَنَّهُ آخِرُ أَمْرِهِ لَمْ يَكُنْ يَقْنُتُ فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ» ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ.
وَأَمَّا صَلَاةُ الْوِتْرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ: فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ لِثُبُوتِ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَعْنِي: «أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ عَلَى الرَّاحِلَةِ» - وَهُوَ مِمَّا يَعْتَمِدُونَهُ فِي الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ إِذَا كَانَ قَدْ صَحَّ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَنَّهُ كَانَ يَتَنَفَّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ» . وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى قَطُّ مَفْرُوضَةً عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلما كَان اتِّفَاقِهِمْ مَعَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ؛ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ لَا تُصَلَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْوِتْرَ فَرْضٌ، وَجَبَ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ ألَّا تُصَلَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَرَدُّواَ الْخَبَرَ بِالْقِيَاسِ وَذَلِكَ ضَعِيفٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute