وَقَدِ احْتَجَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: «كُنْتُ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأْتُ سُورَةَ الحج فَلَمْ يَسْجُدْ وَلَمْ نَسْجُدْ» .
وَكَذَلِكَ أَيْضًا يُحْتَجُّ هَؤُلَاءِ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ فِي الْمُفَصَّلِ» . وَبِمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ سَجَدَ فِيهَا» . لِأَنَّ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ السُّجُودُ وَاجِبًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدَّثَ بِمَا رَأَى، مَنْ قَالَ: إِنَّهُ سَجَدَ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَتَمَسَّكَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ حَمْلُ الْأَوَامِرِ عَلَى الْوُجُوبِ أو الْأَخْبَارِ الَّتِي تنزل مَنْزِلَةَ الْأَوَامِرِ.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: إِنَّ احْتِجَاجَ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْأَوَامِرِ الْوَارِدَةِ بِالسُّجُودِ فِي ذَلِكَ لَا مَعْنَى لَهُ، فَإِنَّ إِيجَابَ السُّجُودِ مُطْلَقًا لَيْسَ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ مُقَيَّدًا وَهُوَ عِنْدُ الْقِرَاءَةِ - أَعْنِي: قِرَاءَةَ آيَةِ السُّجُودِ - قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ أَبُو حَنِيفَةَ لَكَانَتِ الصَّلَاةُ تَجِبُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ فَلَيْسَ يَجِبُ السُّجُودُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ مِنَ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي السُّجُودِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ هِيَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَذَلِكَ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ مُقَيَّدًا بِالتِّلَاوَةِ - أَعْنِي: عِنْدَ التِّلَاوَةِ -، وَوَرَدَ بِهِ الْأَمْرُ مُطْلَقًا فَوَجَبَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ بِالسُّجُودِ كَالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ قُيِّدَ وَجُوبُهَا بِقُيُودٍ أُخَرَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ سَجَدَ فِيهَا. فَبَيَّنَ لَنَا بِذَلِكَ مَعْنَى الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ الْوَارِدِ فِيهَا - أَعْنِي: أَنَّهُ عِنْدَ التِّلَاوَةِ -، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ فِي الْوُجُوبِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا عَدَدُ عَزَائِمِ سُجُودِ الْقُرْآنِ: فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ فِي الْمُوَطَّأ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّ عَزَائِمَ سُجُودِ الْقُرْآنِ إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً، لَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ مِنْهَا شَيْءٌ. وَقَالَ أَصْحَابُهُ:
أَوَّلُهَا: خَاتِمَةُ الْأَعْرَافِ.
وَثَانِيهَا: فِي الرَّعْدِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الأعراف: ٢٠٥] .
وَثَالِثُهَا: فِي النَّحْلِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: ٥٠] .
وَرَابِعُهَا: فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute