وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُهُمْ هَلِ الزَّكَاةُ عِبَادَةٌ أَوْ حَقٌّ مُرَتَّبٌ فِي الْمَالِ لِلْمَسَاكِينِ؟ فَمَنْ رَأَى أَنَّهَا حَقٌّ لَهُمْ قَالَ: لَا زَكَاةَ فِي مَالِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ ; لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الدَّيْنِ مُتَقَدِّمٌ بِالزَّمَانِ عَلَى حَقِّ الْمَسَاكِينِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَالُ صَاحِبِ الدَّيْنِ لَا الَّذِي الْمَالُ بِيَدِهِ.
وَمَنْ قَالَ هِيَ عِبَادَةٌ قَالَ: تَجِبُ عَلَى مَنْ بِيَدِهِ مَالٌ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ، وَعَلَامَتُهُ الْمُقْتَضِيَةُ الْوُجُوبَ عَلَى الْمُكَلَّفِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ تَعَارَضَ هُنَالِكَ حَقَّانِ: حَقٌّ لِلَّهِ، وَحَقٌّ لِلْآدَمِيِّ، وَحَقُّ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى، وَالْأَشْبَهُ بِغَرَضِ الشَّرْعِ إِسْقَاطُ الزَّكَاةِ عَنِ الْمِدْيَانِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهَا: «صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» وَالْمَدِينُ لَيْسَ بِغَنِيٍّ.
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحُبُوبِ وَغَيْرِ الْحُبُوبِ وَبَيْنَ النَّاضِّ وَغَيْرِ النَّاضِّ فَلَا أَعْلَمُ لَهُ شُبْهَةً بَيِّنَةً، وَقَدْ كَانَ أَبُو عُبَيْدٍ يَقُولُ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ لَا يُعْلَمُ أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ، وَهَذَا لَيْسَ خِلَافًا لِمَنْ يَقُولُ بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ الزَّكَاةَ، وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافٌ لِمَنْ يَقُولُ: يُصَدَّقُ فِي الدَّيْنِ كَمَا يُصَدَّقُ فِي الْمَالِ.
وَأَمَّا الْمَالُ الَّذِي هُوَ فِي الذِّمَّةِ - أَعْنِي: فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ -، وَلَيْسَ هُوَ بَيَدِ الْمَالِكِ وَهُوَ الدَّيْنُ: فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْضًا، فَقَوْمٌ قَالُوا: لَا زَكَاةَ فِيهِ وَإِنْ قُبِضَ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ شَرْطَ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْقَابِضِ لَهُ - وَهُوَ الْحَوْلُ - وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ، أَوْ هُوَ قِيَاسُ قَوْلِهِ. وَقَوْمٌ قَالُوا: إِذَا قَبَضَهُ زَكَاةً لِمَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُزَكِّيهِ لِحَوْلٍ وَاحِدٍ وَإِنْ أَقَامَ عِنْدَ الْمِدْيَانِ سِنِينَ، إِذَا كَانَ أَصْلُهُ عَنْ عِوَضٍ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَنْ غَيْرِ عِوَضٍ مِثْلِ الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ بِهِ الْحَوْلَ، وَفِي الْمَذْهَبِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِي زَكَاةِ الثِّمَارِ الْمَحْبُوسَةِ الْأُصُولِ، وَفِي زَكَاةِ الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ: عَلَى مَنْ تَجِبُ زَكَاةُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، هَلْ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ أَوْ صَاحِبِ الزَّرْعِ؟ وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ إِذَا انْتَقَلَتْ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ أَهْلُ الْعُشْرِ، وَفِي الْأَرْضِ الْعُشْرُ وَهِيَ أَرْضُ الْمُسْلِمِينَ إِذَا انْتَقَلَتْ إِلَى الْخَرَاجِ - أَعْنِي: أَهْلَ الذِّمَّةِ -، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الْخِلَافِ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّهَا أَمْلَاكٌ نَاقِصَةٌ.
; أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: وَهِيَ زَكَاةُ الثِّمَارِ الْمُحَبَّسَةُ الْأُصُولِ: فَإِنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ كَانَا يُوجِبَانِ فِيهَا الزَّكَاةَ، وَكَانَ مَكْحُولٌ وَطَاوُسٌ يَقُولَانِ: لَا زَكَاةَ فِيهَا، وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مُحَبَّسَةً عَلَى الْمَسَاكِينِ وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، فَأَوْجَبُوا فِيهَا الصَّدَقَةَ إِذَا كَانَتْ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، وَلَمْ يُوجِبُوا فِيهَا الصَّدَقَةَ إِذَا كَانَتْ عَلَى الْمَسَاكِينِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute