أَجَازُوهَا لِلْعَامِلِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا أَجَازُوهَا لِلْقُضَاةِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ مِمَّنِ الْمَنْفَعَةُ بِهِمْ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ فَقِيَاسُ ذَلِكَ عِنْدَهُ هُوَ أَنْ لَا تَجُوزَ لِغَنِيٍّ أَصْلًا.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ: هَلِ الْعِلَّةُ فِي إِيجَابِ الصَّدَقَةِ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ هُوَ الْحَاجَةُ فَقَطْ، أَوِ الْحَاجَةُ وَالْمَنْفَعَةُ الْعَامَّةُ؟ فَمَنِ اعْتَبَرَ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْحَاجَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْحَاجَةُ فَقَطْ. وَمَنْ قَالَ: الْحَاجَةُ وَالْمَنْفَعَةُ الْعَامَّةُ تُوجِبُ أَخْذَ الصَّدَقَةِ اعْتَبَرَ الْمَنْفَعَةَ لِلْعَامِلِ وَالْحَاجَةَ بِسَائِرِ الْأَصْنَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا حَدُّ الْغِنَى الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الصَّدَقَةِ: فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْمَانِعَ مِنَ الصَّدَقَةِ هُوَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْغَنِيَّ هُوَ مَالِكُ النِّصَابِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَغْنِيَاءَ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ لَهُ: «فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» وَإِذَا كَانَ الْأَغْنِيَاءُ هُمْ أَهْلُ النِّصَابِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفُقَرَاءُ ضِدَّهُمْ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الْغِنَى الْمَانِعُ هُوَ مَعْنًى شَرْعِيٌّ أَمْ مَعْنًى لُغَوِيٌّ؟ فَمَنْ قَالَ: مَعْنًى شَرْعِيٌّ قَالَ: وُجُوبُ النِّصَابِ هُوَ الْغِنَى، وَمَنْ قَالَ: مَعْنًى لُغَوِيٌّ اعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ أَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، فَمَنْ رَأَى أَنَّ أَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ هُوَ مَحْدُودٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَفِي كُلِّ شَخْصٍ جَعَلَ حَدَّهُ هَذَا، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ وَأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحَالَاتِ وَالْحَاجَاتِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ: هُوَ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي حَدِيثَ الْغَنِيِّ الَّذِي يَمْنَعُ الصَّدَقَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مَلَكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَفِي أَثَرٍ آخَرَ أَنَّهُ مَلَكَ أُوقِيَّةً وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَأَحْسَبُ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا بِهَذِهِ الْآثَارِ فِي حَدِّ الْغِنَى.
وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي صِفَةِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ وَالْفَصْلِ الَّذِي بَيْنَهُمَا، فَقَالَ قَوْمٌ: الْفَقِيرُ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ، وَبِهِ قَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمِسْكِينُ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَفِي قَوْلِهِ الثَّانِي:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute