وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَمَا عَطِبَ فِي الْحَرَمِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ مَكَّةَ فَهَلْ بَلَغَ مَحِلَّهُ؟ أَمْ لَا؟ فِيهِ الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ هَلِ الْمَحِلُّ هُوَ مَكَّةُ أَوِ الْحَرَمُ؟ وَأَمَّا الْهَدْيُ الْوَاجِبُ إِذَا عَطِبَ قَبْلَ مَحِلِّهِ فَإِنَّ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ بَدَلَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ لَهُ بَيْعَ لَحْمِهِ، وَأَنْ يَسْتَعِينَ بِهِ فِي الْبَدَلِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَكْلِ مِنَ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ إِذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُؤْكَلُ مِنَ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ كُلِّهِ، وَلَحْمُهُ كُلُّهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَكَذَلِكَ جِلُّهُ إِنْ كَانَ مُجَلَّلًا، وَالنَّعْلُ الَّذِي قُلِّدَ بِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُؤْكَلُ مِنْ كُلِّ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ إِلَّا جَزَاءَ الصَّيْدِ، وَنَذْرَ الْمَسَاكِينِ، وَفِدْيَةَ الْأَذَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُؤْكَلُ مِنَ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ إِلَّا هَدْيَ الْمُتْعَةِ، وَهَدْيَ الْقِرَانِ.
وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ تَشْبِيهُ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ بِالْكَفَّارَةِ، وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ فَلِأَنَّهُ يَظْهَرُ فِي الْهَدْيِ مَعْنَيَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عِبَادَةٌ مُبْتَدَأَةٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَفَّارَةٌ.
وَأَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي بَعْضِهَا أَظْهَرُ؛ فَمَنْ غَلَّبَ شَبَهَهُ بِالْعِبَادَةِ عَلَى شَبَهِهِ بِالْكَفَّارَةِ فِي نَوْعٍ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْهَدْيِ كَهَدْيِ الْقِرَانِ وَهَدْيِ التَّمَتُّعِ، وَبِخَاصَّةٍ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ أَفْضَلُ - لَمْ يَشْتَرِطْ أَنْ لَا يَأْكُلَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْهَدْيَ عِنْدَهُ هُوَ فَضِيلَةٌ لَا كَفَّارَةٌ تَدْفَعُ الْعُقُوبَةَ. وَمَنْ غَلَّبَ شَبَهَهُ بِالْكَفَّارَةِ قَالَ: لَا يَأْكُلُهُ؛ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ صَاحِبُ الْكَفَّارَةِ مِنَ الْكَفَّارَةِ. وَلَمَّا كَانَ هَدْيُ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَفِدْيَةُ الْأَذَى ظَاهِرٌ مِنْ أَمْرِهِمَا أَنَّهُمَا كَفَّارَةٌ لَمْ يَخْتَلِفْ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِنْهَا.
قَالَ الْقَاضِي: فَقَدْ قُلْنَا فِي حُكْمِ الْهَدْيِ، وَفِي جِنْسِهِ، وَفِي سِنِّهِ، وَكَيْفِيَّةِ سَوْقِهِ، وَشُرُوطِ صِحَّتِهِ مِنَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَصِفَةِ نَحْرِهِ، وَحُكْمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ. وَذَلِكَ مَا قَصَدْنَاهُ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
وَبِتَمَامِ الْقَوْلِ فِي هَذَا بِحَسَبِ تَرْتِيبنَا تَمَّ الْقَوْلُ فِي هَذَا الْكِتَابِ بِحَسَبِ غَرَضِنَا، وَلِلَّهِ الشُّكْرُ وَالْحَمْدُ كَثِيرًا عَلَى مَا وَفَّقَ وَهَدَى وَمَنَّ بِهِ مِنَ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ.
وَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ التَّاسِعَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى الَّذِي هُوَ عَامُ أَرْبَعَةٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ كِتَابِ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي وَضَعْتُهُ مُنْذُ أَزْيَدَ مِنْ عِشْرِينَ عَامًا أَوْ نَحْوِهَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
كَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَزَمَ حِينَ تَأْلِيفِ الْكِتَابِ أَوَّلًا أَلَّا يُثْبِتَ كِتَابَ الْحَجِّ، ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدُ فَأَثْبَتَهُ.