اصْطِيَادَ بِجَارِحٍ مَا عَدَا الْكَلْبَ، لَا بَازٌ، وَلَا صَقْرٌ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، إِلَّا مَا أُدْرِكَتْ ذَكَاتُهُ. وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنَ الطُّيُورِ الْجَارِحَةِ الْبَازِيَّ فَقَطْ فَقَالَ: يَجُوزُ صَيْدُهُ وَحْدَهُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: قِيَاسُ سَائِرِ الْجَوَارِحِ عَلَى الْكِلَابِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ النَّصَّ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْكِلَابِ، أَعْنِي: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: ٤] ، إِلَّا أَنْ يُتَأَوَّلَ أَنَّ لَفْظَةَ " مُكَلِّبِينَ " مُشْتَقَّةٌ مِنْ كَلَّبَ الْجَارِحَ لَا مِنْ لَفْظِ الْكَلْبِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا عُمُومُ اسْمِ الْجَوَارِحِ الَّذِي فِي الْآيَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ سَبَبُ الِاخْتِلَافِ الِاشْتِرَاكَ الَّذِي فِي لَفْظَةِ "مُكَلِّبِينَ".
وَالسَّبَبُ الثَّانِي: هَلْ مِنْ شَرْطِ الْإِمْسَاكِ الْإِمْسَاكُ عَلَى صَاحِبِهِ؟ أَمْ لَا؟ وَإِنْ كَانَ مِنْ شَرْطِهِ فَهَلْ يُوجَدُ فِي غَيْرِ الْكَلْبِ؟ أَوْ لَا يُوجَدُ؟
فَمَنْ قَالَ: لَا يُقَاسُ سَائِرُ الْجَوَارِحِ عَلَى الْكِلَابِ، وَأَنَّ لَفْظَةَ مُكَلِّبِينَ هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنِ اسْمِ الْكَلْبِ لَا مِنِ اسْمِ غَيْرِ الْكَلْبِ، أَوْ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ الْإِمْسَاكُ إِلَّا فِي الْكَلْبِ، أَعْنِي: عَلَى صَاحِبِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ - قَالَ: لَا يُصَادُ بِجَارِحٍ سِوَى الْكَلْبِ.
وَمَنْ قَاسَ عَلَى الْكَلْبِ سَائِرَ الْجَوَارِحِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْإِمْسَاكِ الْإِمْسَاكَ عَلَى صَاحِبِهِ - قَالَ: يَجُوزُ صَيْدُ سَائِرِ الْجَوَارِحِ إِذَا قَبِلَتِ التَّعْلِيمَ.
وَأَمَّا مَنِ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْبَازِيَّ فَقَطْ فَمَصِيرًا إِلَى مَا رُوِيَ «عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ قَالَ: " سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَيْدِ الْبَازِيِّ فَقَالَ: مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْ» . خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ.
فَهَذِهِ هِيَ أَسْبَابُ اتِّفَاقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي أَنْوَاعِ الْجَوَارِحِ.
وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُشْتَرَطَةُ فِي الْجَوَارِحِ فَإِنَّ مِنْهَا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّعْلِيمُ بِالْجُمْلَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: ٤] ، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ» . وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ التَّعْلِيمِ وَشُرُوطِهِ، فَقَالَ قَوْمٌ: التَّعْلِيمُ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَدْعُوَ الْجَارِحَ، فَيُجِيبَ.
وَالثَّانِي: أَنْ تُشْلِيَهُ، فَيَنْشَلِيَ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَزْجُرَهُ فَيُزْدَجَرَ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي اشْتِرَاطِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي الْكَلْبِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الِانْزِجَارِ فِي سَائِرِ الْجَوَارِحِ.
فَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي هَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَأْكُلَ الْجَارِحُ؟ فَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَهُ فِي الْكَلْبِ فَقَطْ. وَقَوْلُ مَالِكٍ: