يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَتَشْبِيهُ هَذَا الْحَقِّ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ الَّتِي يَقْبِضُهَا الْإِنْسَانُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ الْإِشْهَادُ، فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقِيَاسِ وَالْآيَةِ حَمْلَ الْآيَةَ عَلَى النَّدْبِ. وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا تَكُونُ بِهِ الرَّجْعَةُ، فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: لَا تَكُونُ الرَّجْعَةُ إِلَّا بِالْقَوْلِ فَقَطْ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَوْمٌ قَالُوا: تَكُونُ رَجْعَتُهَا بِالْوَطْءِ، وَهَؤُلَاءِ انْقَسَمُوا قِسْمَيْنِ: فَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بِالْوَطْءِ إِلَّا إِذَا نَوَى بِذَلِكَ الرَّجْعَةَ، لِأَنَّ الْفِعْلَ عِنْدَهُ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْقَوْلِ مَعَ النِّيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأَجَازَ الرَّجْعَةَ بِالْوَطْءِ إِذَا نَوَى بِذَلِكَ الرَّجْعَةَ وَدُونَ النِّيَّةِ.
أَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَقَاسَ الرَّجْعَةَ عَلَى النِّكَاحِ، وَقَالَ: قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِشْهَادِ، وَلَا يَكُونُ الْإِشْهَادُ إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ.
وَأَمَّا سَبَبُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ: فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَلَّلَةُ الْوَطْءِ عِنْدَهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُولَى مِنْهَا وَعَلَى الْمُظَاهَرَةِ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَنْفَصِلْ عِنْدَهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا. وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ وَطْءَ الرَّجْعِيَّةِ حَرَامٌ حَتَّى يَرْتَجِعَهَا، فَلَا بُدَّ عِنْدَهُ مِنَ النِّيَّةِ. فَهَذَا هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي شُرُوطِ صِحَّةِ الرَّجْعَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَخْلُو مَعَهَا وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى شَعْرِهَا، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهَا إِذَا كَانَ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا. وَحَكَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ إِبَاحَةِ الْأَكْلِ مَعَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا بَأْسَ أَنْ تَتَزَيَّنَ الرَّجْعِيَّةُ لِزَوْجِهَا، وَتَتَطَيَّبَ لَهُ وَتَتَشَوَّفَ وَتُبْدِيَ الْبَنَانَ وَالْكُحْلَ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَكُلُّهُمْ قَالُوا: لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ تَعْلَمَ بِدُخُولِهِ بِقَوْلٍ أَوْ حَرَكَةٍ مِنْ تَنَحْنُحٍ أَوْ خَفْقِ نَعْلٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْبَابِ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً وَهُوَ غَائِبٌ، ثُمَّ يُرَاجِعُهَا، فَيَبْلُغُهَا الطَّلَاقُ وَلَا تَبْلُغُهَا الرَّجْعَةُ، فَتَتَزَوَّجُ إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا: فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهَا لِلَّذِي عَقَدَ عَلَيْهَا النِّكَاحَ، دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، هَذَا قَوْلُهُ فِي الْمُوَطَّأِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ رَجَعَ عَنِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ قَالَ: الْأَوَّلُ أَوْلَى بِهَا إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ الثَّانِي، وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ الْمَدَنِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِهِ قَالُوا: وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ لِأَنَّهُ أَثْبَتَهُ فِي مُوَطَّئِهِ إِلَى يَوْمِ مَاتَ وَهُوَ يُقْرَأُ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَرَوَاهُ عَنْهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ، وَالْكُوفِيُّونَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ فَقَالُوا: زَوْجُهَا الْأَوَّلُ الَّذِي ارْتَجَعَهَا أَحَقُّ بِهَا دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَهُوَ الْأَبْيَنُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إِنَّ الزَّوْجَ الَّذِي ارْتَجَعَهَا مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ امْرَأَتَهُ أَوْ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِمَا كَانَ أَصْدَقَهَا، وَحُجَّةُ مَالِكٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى: مَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ فِي الَّذِي يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا فَيَكْتُمُهَا رَجْعَتَهَا حَتَّى تَحِلَّ فَتَنْكَحَ زَوْجًا غَيْرَهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute