أَنْ لَا يَفِيءَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ. فَمَنْ فَهِمَ مِن اشْتِرَاطِ الْفَيْئَةِ اشْتِرَاطَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ قَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: ٢٢٧] أَيْ بِاللَّفْظِ {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: ٢٢٧] .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْآيَةِ أَرْبَعَةُ أَدِلَّةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَعَلَ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ حَقًّا لِلزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ، فَأَشْبَهَتْ مُدَّةَ الْأَجَلِ فِي الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ.
الدَّلِيلُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ الطَّلَاقَ إِلَى فِعْلِهِ. وَعِنْدَهُمْ لَيْسَ يَقَعُ مِنْ فِعْلِهِ إِلَّا تَجَوُّزًا - أَعْنِي: لَيْسَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَّا تَجَوُّزًا - وَلَيْسَ يُصَارُ إِلَى الْمَجَازِ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ.
الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: ٢٢٧] قَالُوا: فَهَذَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَى وَجْهٍ يُسْمَعُ، وَهُوَ وُقُوعُهُ بِاللَّفْظِ لَا بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: ٢٢٦] ظَاهِرَةٌ فِي مَعْنَى التَّعْقِيبِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْفَيْئَةَ بَعْدَ الْمُدَّةِ، وَرُبَّمَا شَبَّهُوا هَذِهِ الْمُدَّةَ بِمُدَّةِ الْعِتْقِ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ اعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ تَشْبِيهَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ، إِذْ كَانَتِ الْعِدَّةُ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِئَلَّا يَقَعَ مِنْهُ نَدَمٌ. وَبِالْجُمْلَةِ فَشَبَّهُوا الْإِيلَاءَ بِالطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَشَبَّهُوا الْمُدَّةَ بِالْعِدَّةِ وَهُوَ شَبَهٌ قَوِيٌّ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْيَمِينِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْإِيلَاءُ، فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: يَقَعُ الْإِيلَاءُ بِكُلِّ يَمِينٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَقَعُ إِلَّا بِالْأَيْمَانِ الْمُبَاحَةِ فِي الشَّرْعِ، وَهِيَ الْيَمِينُ بِاللَّهِ، أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، فَمَالكٌ اعْتَمَدَ الْعُمُومَ - أَعْنِي: عُمُومَ قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: ٢٢٦] . - وَالشَّافِعِيُّ يُشَبِّهُ الْإِيلَاءَ بِيَمِينِ الْكَفَّارَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ كِلَا الْيَمِينَيْنِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ الَّتِي تَرَتَّبَ عَلَيْهَا حُكْمُ الْإِيلَاءِ هِيَ الْيَمِينُ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ الْكَفَّارَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَأَمَّا لُحُوقُ حُكْمِ الْإِيلَاءِ لِلزَّوْجِ إِذَا تَرَكَ الْوَطْءَ بِغَيْرِ يَمِينٍ: فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ بِغَيْرِ يَمِينٍ. وَمَالِكٌ يُلْزِمُهُ وَذَلِكَ إِذَا قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِتَرْكِ الْوَطْءِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى ذَلِكَ، فَالْجُمْهُورُ اعْتَمَدُوا الظَّاهِرَ، وَمَالِكٌ اعْتَمَدَ الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا لَزِمَهُ بِاعْتِقَادِهِ تَرْكَ الْوَطْءِ، وَسَوَاءٌ شَدَّ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ بِيَمِينٍ أَوْ بِغَيْرِ يَمِينٍ، لِأَنَّ الضَّرَرَ يُوجَدُ فِي الْحَالَتَيْنِ جَمِيعًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ، فَإِنَّ مَالِكًا وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ يَرَى أَنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، إِذْ كَانَ الْفَيْءُ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ. وَأَمَّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute