للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِأَنَّ آيَةَ اللِّعَانِ لَمْ تَتَضَمَّنْ إِيجَابَ الْحَدِّ عَلَيْهِ عِنْدَ النُّكُولِ، وَالتَّعْرِيضِ لِإِيجَابِهِ زِيَادَةً فِي النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ عِنْدَهُمْ نَسْخٌ، وَالنَّسْخُ لَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ وَلَا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، قَالُوا: وَأَيْضًا لَوْ وَجَبَ الْحَدُّ لَمْ يَنْفَعْهُ الِالْتِعَانُ، وَلَا كَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إِسْقَاطِهِ، لِأَنَّ الِالْتِعَانَ يَمِينٌ فَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْحَدُّ عَنِ الْأَجْنَبِيِّ، فَكَذَلِكَ الزَّوْجُ.

وَالْحَقُّ أَنَّ الِالْتِعَانَ يَمِينٌ مَخْصُوصَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا حُكْمٌ مَخْصُوصٌ، وَقَدْ نُصَّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنَّ الْيَمِينَ يَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ، فَالْكَلَامُ فِيمَا هُوَ الْعَذَابُ الَّذِي يَنْدَرِئُ عَنْهَا بِالْيَمِينِ.

وَلِلِاشْتِرَاكِ الَّذِي فِي اسْمِ الْعَذَابِ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهَا إِذَا نَكَلَتْ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْجُمْهُورُ: إِنَّهَا تُحَدُّ، وَحَدُّهَا الرَّجْمُ إِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا وَوُجِدَتْ فِيهَا شُرُوطُ الْإِحْصَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَالْجَلْدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِذَا نَكَلَتْ وَجَبَ عَلَيْهَا الْحَبْسُ حَتَّى تُلَاعِنَ، وَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ كُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ» ، وَأَيْضًا فَإِنَّ سَفْكَ الدَّمِ بِالنُّكُولِ حُكْمٌ تَرُدُّهُ الْأُصُولُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ لَا يُوجِبُونَ غُرْمَ الْمَالِ بِالنُّكُولِ فَكَانَ بِالْحَرِيِّ أَنْ لَا يَجِبَ بِذَلِكَ سَفْكُ الدِّمَاءِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَقَاعِدَةُ الدِّمَاءِ مَبْنَاهَا فِي الشَّرْعِ عَلَى أَنَّهَا لَا تُرَاقُ إِلَّا بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ، أَوْ بِالِاعْتِرَافِ، وَمِنَ الْوَاجِبِ أَلَّا تُخَصَّصَ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ بِالِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدِ اعْتَرَفَ أَبُو الْمَعَالِي فِي كِتَابِهِ الْبُرْهَانِ بِقُوَّةِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ شَافِعِيٌّ.

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ حُدَّ وَأُلْحِقَ بِهِ الْوَلَدُ إِنْ كَانَ نَفَى وَلَدًا.

وَاخْتَلَفُوا: هَلْ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا بَعْدَ اتِّفَاقِ جُمْهُورِهِمْ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ تَجِبُ بِاللِّعَانِ، إِمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ عَلَى مَا نَقُولُهُ بَعْدُ ; فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَدَاوُدُ، وَأَحْمَدُ، وَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: إِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ; وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٌ: إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ جُلِدَ الْحَدَّ، وَكَانَ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ; وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: تُرَدُّ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ. وَحُجَّةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا» ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَأَطْلَقَ التَّحْرِيمَ. وَحُجَّةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّهُ إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ اللِّعَانِ، فَكَمَا يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ كَذَلِكَ تُرَدُّ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلتَّحْرِيمِ إِنَّمَا هُوَ الْجَهْلُ بِتَعْيِينِ صِدْقِ أَحَدِهِمَا مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ، فَإِذَا انْكَشَفَ ارْتَفَعَ التَّحْرِيمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>