الْخُلُقِ الشَّرْعِيِّ نُقْصَانًا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ، وَالْعَوَائِدِ، وَالْأَشْخَاصِ، فَرُبَّمَا كَانَ النَّقْصُ فِي الْخِلْقَةِ فَضِيلَةً فِي الشَّرْعِ، كَالْخِفَاضِ فِي الْإِمَاءِ، وَالْخِتَانِ فِي الْعَبِيدِ.
وَلِتَقَارُبِ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَامَلُ النَّاسُ بِهِ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَا اشْتَهَرَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لِيَكُونَ مَا يَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْفَقِيهِ يَعُودُ كَالْقَانُونِ وَالدُّسْتُورِ الَّذِي يَعْمَلُ عَلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ، أَوْ فِيمَا لَمْ يَقِفْ عَلَى نَصٍّ فِيهِ لِغَيْرِهِ.
فَمِنْ ذَلِكَ وُجُودُ الزِّنَا فِي الْعَبِيدِ. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ; فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: هُوَ عَيْبٌ; وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ بِعَيْبٍ، وَهُوَ نَقْصٌ فِي الْخُلُقِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ الْعِفَّةُ.
وَالزَّوَاجُ عِنْدَ مَالِكٍ عَيْبٌ، وَهُوَ مِنَ الْعُيُوبِ الْعَائِقَةِ عَنْ الِاسْتِعْمَالِ، وَكَذَلِكَ الدِّينُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَيْبَ بِالْجُمْلَةِ هُوَ مَا عَاقَ فِعْلَ النَّفْسِ، أَوْ فِعْلَ الْجِسْمِ، وَهَذَا الْعَائِقُ قَدْ يَكُونُ فِي الشَّيْءِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ خَارِجٍ; وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ الدِّينُ وَلَا الزَّوَاجُ بِعَيْبٍ فِيمَا أَحْسَبُ.
وَالْحَمْلُ فِي الرَّائِعَةِ عَيْبٌ عِنْدَ مَالِكٍ. وَفِي كَوْنِهِ عَيْبًا فِي الْوَخْشِ خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ.
وَالتَّصْرِيَةُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ عَيْبٌ، وَهُوَ حَقْنُ اللَّبَنِ فِي الثَّدْيِ أَيَّامًا حَتَّى يُوهِمَ ذَلِكَ أَنَّ الْحَيَوَانَ ذُو لَبَنٍ غَزِيرٍ، وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» ، قَالُوا: فَأَثْبَتَ لَهُ الْخِيَارَ بِالرَّدِّ مَعَ التَّصْرِيَةِ، وَذَلِكَ دَالٌّ عَلَى كَوْنِهِ عَيْبًا مُؤَثِّرًا. قَالُوا: وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مُدَلِّسٌ، فَأَشْبَهَ التَّدْلِيسَ بِسَائِرِ الْعُيُوبِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: لَيْسَتِ التَّصْرِيَةُ عَيْبًا لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اشْتَرَى شَاةً فَخَرَجَ لَبَنُهَا قَلِيلًا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِعَيْبٍ. قَالُوا: وَحَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ يَجِبُ أَنْ لَا يُوجِبَ عَمَلًا لِمُفَارَقَتِهِ الْأُصُولَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مُفَارِقٌ لِلْأُصُولِ مِنْ وُجُوهٍ:
فَمِنْهَا: أَنَّهُ مَعَارِضٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» وَهُوَ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ فِيهِ مُعَارَضَةَ مَنْعِ بَيْعِ طَعَامٍ بِطَعَامٍ نَسِيئَةً، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُتْلَفَاتِ إِمَّا الْقِيَمُ وَإِمَّا الْمِثْلُ، وَإِعْطَاءُ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ فِي لَبَنٍ لَيْسَ قِيمَةً وَلَا مِثْلًا. وَمِنْهَا: بَيْعُ الطَّعَامِ الْمَجْهُولِ (أَيْ: الْجُزَافُ) بِالْمَكِيلِ الْمَعْلُومِ، لِأَنَّ اللَّبَنَ الَّذِي دَلَّسَ بِهِ الْبَائِعُ غَيْرُ مَعْلُومِ الْقَدْرِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَقِلُّ وَيَكْثُرُ، وَالْعِوَضُ هَاهُنَا مَحْدُودٌ.
وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُسْتَثْنَى هَذَا مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ كُلِّهَا لِمَوْضِعِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَهَذَا كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَإِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ خَاصٌّ.