وَعُمْدَةُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ شِبْهُ ذَهَابِ مَا بِهِ تُسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةُ بِذَهَابِ الْعَيْنِ الَّتِي فِيهَا الْمَنْفَعَةُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ إِذَا كَانَ الْكِرَاءُ فِي غَيْرِ مَخْصُوصٍ عَلَى اسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةٍ مِنْ جِنْسٍ مَخْصُوصٍ: فَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ مَحِلَّ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْإِجَارَةِ، وَإِنْ عُيِّنَ فَذَلِكَ كَالْوَصْفِ لَا يَنْفَسِخُ بِبَيْعِهِ أَوْ ذَهَابِهِ، بِخِلَافِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ إِذَا تَلِفَتْ، قَالَ: وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَلَى رِعَايَةِ غَنَمٍ بِأَعْيَانِهَا، أَوْ خِيَاطَةِ قَمِيصٍ بِعَيْنِهِ، فَتَهْلِكَ الْغَنَمُ وَيَحْتَرِقَ الثَّوْبُ فَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْتِيَ بِغَنَمٍ مِثْلِهَا لِيَرْعَاهَا، أَوْ قَمِيصٍ مِثْلِهِ لِيَخِيطَهُ، وقَالَ: قَدْ قِيلَ إِنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِتَلَفِ الْمَحِلِّ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ اخْتِلَافًا فِي الْمَذْهَبِ; وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَحِلُّ الْمُعَيَّنُ لِاسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ مِمَّا تُقْصَدُ عَيْنُهُ، أَوْ مِمَّا لَا تُقْصَدُ عَيْنُهُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا تُقْصَدُ عَيْنُهُ انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ كَالظِّئْرِ إِذَا مَاتَ الطِّفْلُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقْصَدُ عَيْنُهُ لَمْ تَنْفَسِخِ الْإِجَارَةُ عَلَى رِعَايَةِ الْغَنَمِ بأعيانها أَوْ بَيْعِ طَعَامٍ فِي حَانُوتٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَاشْتِرَاطُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ عَلَى غَنَمٍ بِأَعْيَانِهَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْخَلَفَ; هُوَ الْتِفَاتٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّهَا تَنْفَسِخُ بِذَهَابِ مَحِلِّ اسْتِيفَاءِ الْمُعَيَّنِ، لَكِنْ لَمَّا رَأَى التَّلَفَ سَائِقًا إِلَى الْفَسْخِ رَأَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْغَرَرِ، فَلَمْ يَجُزِ الْكِرَاءُ عَلَيْهَا إِلَّا بِاشْتِرَاطِ الْخَلَفِ.
وَمِنْ نَحْوِ هَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِي هَلْ يَنْفَسِخُ الْكِرَاءُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ (أَعْنِي: الْمُكْرِي وَالْمُكْتَرِيَ) ; فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا يَنْفَسِخُ وَيُورَثُ عَقْدُ الْكِرَاءِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ: يَنْفَسِخُ. وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْفَسْخِ: أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَصْلُهُ الْبَيْعُ.
وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْمَوْتَ نقلَه لِأَصِلِ الرَّقَبَةِ الْمُكْتَرَاةِ مِنْ مِلْكٍ إِلَى مِلْكٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطَلَ، أَصْلَهُ الْبَيْعُ فِي الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ مُدَّةً طَوِيلَةً (أَعْنِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ) ، فَلَمَّا كَانَ لَا يَجْتَمِعُ الْعَقْدَانِ مَعًا غَلَبَ هَاهُنَا انْتِقَالُ الْمِلْكِ، وَإِلَّا بَقِيَ الْمِلْكُ لَيْسَ لَهُ وَارِثٌ، وَذَلِكَ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ، وَرُبَّمَا شَبَّهُوا الْإِجَارَةَ بِالنِّكَاحِ; إِذْ كَانَ كِلَاهُمَا اسْتِيفَاءَ مَنَافِعَ، وَالنِّكَاحُ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَرُبَّمَا احْتَجُّوا عَلَى الْمَالِكِيَّةِ فَقَطْ بِأَنَّ الْأُجْرَةَ عِنْدَهُمْ تَسْتَحِقُّ جُزْءًا فَجُزْءًا بِقَدْرِ مَا يُقْبَضُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، قَالُوا: وَإِذا كَانَ هَذَا هَكَذَا فَإِنْ مَاتَ الْمَالِكُ وَبَقِيَتِ الْإِجَارَةُ، فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَسْتَوْفِي فِي مِلْكِ الْوَارِثِ حَقًّا بِمُوجِبِ عَقْدٍ فِي غَيْرِ مِلْكِ الْعَاقِدِ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ، وَإِنْ مَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ فَتَكُونُ الْأُجْرَةُ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالْمَيِّتُ لَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِإِجْمَاعٍ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَلَا يَلْزَمُهُمْ هَذَا; لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْأُجْرَةِ يَجِبُ عِنْدَهُمْ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَلَى مَا سَلَفَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute