للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

اخْتُلِفَ فِي أَلْفَاظِهِ، وَالْحَدِيثُ أَنَّهُ قَالَ «إِنَّ أَبَاهُ بَشِيرًا أَتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَارْتَجِعْهُ» وَاتَّفَق مَالِكٍ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ، قَالُوا: وَالِارْتِجَاعُ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الْهِبَةِ. وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ «أَنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " هَذَا جَوْرٌ» .

وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَهَبَ فِي صِحَّتِهِ جَمِيعَ مَالِهِ لِلْأَجَانِبِ دُونَ أَوْلَادِهِ، فَإِن كَانَ ذَلِكَ لِلْأَجْنَبِيِّ فَهُوَ لِلْوَلَدِ أَحْرَى. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ كَانَ نَحَلَ عَائِشَةَ جَذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِ الْغَابَةِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، قَالَ: وَاللَّهِ يَا بُنَيَّةُ مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيَّ غِنًى بَعْدِي مِنْكِ، وَلَا أَعَزُّ عَلَيَّ فَقْرًا بَعْدِي مِنْكِ، وَإِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جَذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا فَلَوْ كُنْتِ جَذَذْتِيهِ وَاحْتَزْتِيهِ كَانَ لَكِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وَارِثٍ. قَالُوا: وَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمُرَادُ بِهِ النَّدَبُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: «أَلَسْتَ تُرِيدُ أَنْ يَكُونُوا لَكَ فِي الْبِرِّ وَاللُّطْفِ سَوَاءً؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» .

وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ رَأَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ أَنْ يَهَبَ الرَّجُلُ جَمِيعَ مَالِهِ لِوَاحِدٍ مِنْ وَلَدِهِ هُوَ أَحْرَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْوُجُوبِ، فَأَوْجَبَ عِنْدَهُ مَفْهُومُ هَذَا الْحَدِيثِ النَّهْيَ عَنْ أَنْ يَخُصَّ الرَّجُلُ بَعْضَ أَوْلَادِهِ بِجَمِيعِ مَالِهِ.

فَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلَفْظِ النَّهْيِ الْوَارِدِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي عِنْدَ الْأَكْثَرِ بِصِيغَتِهِ التَّحْرِيمَ، كَمَا يَقْتَضِي الْأَمْرُ الْوُجُوبَ.

فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ السَّمَاعِ وَالْقِيَاسِ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى النَّدْبِ، أَوْ خَصَّصَهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَا فَعَلَ مَالِكٌ، وَلَا خِلَافَ عِنْدِ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ السُّنَّةِ بِالْقِيَاسِ، وَكَذَلِكَ الْعُدُولُ بِهَا عَنْ ظَاهِرِهَا (أَعْنِي: أَنْ يُعْدَلَ بِلَفْظِ النَّهْيِ عَنْ مَفْهُومِ الْحَظْرِ إِلَى مَفْهُومِ الْكَرَاهِيَةِ) ، وَأَمَّا أَهْلُ الظَّاهِرِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمُ الْقِيَاسُ فِي الشَّرْعِ اعْتَمَدُوا ظَاهِرَ الْحَدِيثِ، وَقَالُوا بِتَحْرِيمِ التَّفْضِيلِ فِي الْهِبَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>